«الولاد هنن المال والرسمال لبكرا»
عندما تعجز أماني الموت عن استيعاب ظلمٍ وعسفٍ، وعندما تضيق المساحات عن استيعاب قهرٍ، وعندما يكون الفقر أكبر من أن يُردم تحت تراب قبر! هي مختصر حكاية إرث ووجع.
ملابس مهترئة ومفتاح بيت مدمر وقائمة بالديون، كانت جردة الإرث التي تركها لأيتامه على قارعة رصيف في «وطن»!.
هي ليست أسطراً وكلمات من صفحة «فيسبوك» ولا استعارةً من رواية ما، هي مقدمة لحكاية مرار وظلم وقهر، ضحاياها «أبطالها» كثر من السوريين، ربما مع تغيير ببعض التفصيلات والسرديات.
«أم حسن»
متماسكة وبعينين دامعتين كانت تجلس أرضاً في حديقة المواساة في دمشق مع أطفالها الثلاثة، أكبرهم بعمر 6 سنوات وأصغرهم بعمر سنتين، ترتدي ما يشبه المعطف، فيما أطفالها حولها، تنتظر استكمال أوراق دفن زوجها في مقابر نجها، يساعدها على ذلك شقيقها.
الحكاية
تحكي، أم حسن، قصتها التي تقطعت بالكثير من التنهدات والبكاء الصامت، وكأن بها رغبة دفينة بالبوح والكلام: «زوجي شاب لكنه ظهر بأنه مصاب بمرض السرطان في الأمعاء، وقد اكتشفنا ذلك متأخراً، وبالفترة الأخيرة كنا نأتي إلى المشفى من أجل علاجه، لكن صحته تدهورت بشكل كبير مؤخراً وتوفي ليلة الأمس، بعد أن أتينا به بحالة إسعافية».
«هو شغيل»، والكلام عن زوجها، «خسر ماله ورسماله»، حيث كان يملك محلاً صغيراً لبيع الخضرة والسمانة، مقتطع من المنزل الذي يملكونه في حرستا، لكن كل شيء ذهب نهباً ودماراً، ونزحوا كما غيرهم من المنطقة، «المهم بوقتها طلعنا كلنا بخير وسلامة.. وكل شي بيتعوض».
وتتابع: «عند قدومنا إلى دمشق نزوحاً، بعت ما بحوزتي من مصاغ ذهبي قليل، بالإضافة لما توفر مع زوجي من مال محدود، واستأجرنا غرفة صغيرة ومنتفعات في حارات ركن الدين المرتفعة، وقد اشترينا بعض الأثاث المستعمل الضروري، وقد كان حالنا أفضل من غيرنا بكثير ممن شردوا ونزحوا، وفي الوقت نفسه بدأ زوجي يبحث عن عمل من أجل أن يطعمنا ويؤمن متطلباتنا، وأهم شيء كان بالنسبة إليه أن يؤمن أجرة البيت التي ترتفع كل فترة».
«سبع صنايع والبخت ضايع»!
وتضيف أم حسن: «اشتغل بالدهان والكهربا والبيتون والصحية بأول فترة حتى هلك من التعب، كان يطلع الصبح وما يرجع لآخر الليل، وقت يكون في ورشات، أو أي شغل ممكن يساويه، ووقت ما في يطلع ليدور ع شغل تاني، كان ينوجع من تم ساكت، وكل فكرنا أنو الشغلة تعب ومن الأكل الناشف والشاي والقهوة والدخان».
وتكمل حديثها: «بعدين زاد التعب عليه، وحصر كتير ع وضعو وصحتو وقلة الشغل وتقصيرو ع البيت، وما عادت المسكنات تنفع معو، فنصحو واحد صيدلاني يراجع مشفى المواساة، لأن ما في مجال نروح لا ع دكتور ولا ع غيرو، ولأن وضعنا صار أسوأ بكتير، وبالمشفى خبرونا أنو معو سرطان قديم ومنتشر بعد ما عملولو تحاليل وتصوير، وبدو يعطوه كيماوي كل أسبوع، هد حيلو أكتر وأكتر، وراح شعرو وما عاد فيه يشتغل متل قبل، وزاد علينا مصروف الأدوية الكبير مشان مرضو، ورغم هيك ضل يطلع من البيت بقلب الأسبوع وقت يحس بحالو نشيط يدور ع شغل وهو مو قدران، مرة يجيب مصاري ويقول: أنو اشتغل، ومرة يجي بايديه الفاضية وهو مهدود الحيل، وكل هالسنين ما رضي نسجل لا بجمعية ولا بغيرو وهو يقول: مالنا بحاجة الله ساترها معنا، رغم كنا بحاجة بآخر فترة، وبآخر كم شهر صار وضعو ميؤوس منو ع هوا حكي الدكاترة، وهو أصلاً بيعرف هالشي، وسلمنا أمرنا لله».
الموت راحة!
وتابعت: «من كتر الحصر كتير مرات كان يدعي لله يريحو من عذابو وعذابي معو، وكل همو كان الولاد بعد ما يموت، ووصى أخواتي وأخواتو فينا، بس كان الله بعونهم كل مين الله كافيه بهمو».
وعن لحظة وفاته قالت بأسى: «لك المصيبة أني ما كنت معو بلحظتها الله يسامحني ويغفرلو.. كنت عم مشي الولاد وغيرلهم جو عن المشفى.. بس الله يرحمو شو كان حقاني وبيكره الحرام، بعد ما خبرونا أنو توفى، سلمونا اللي كان بجيبتو يا حسرتي.. هويتو وألف وميتين ورقة، ومفتاح بيتنا اللي راح، وورقة كاتب عليها شو مدّين من العالم مصاري بالاسم والتاريخ».
تتابع أم حسن: «الحمدلله أنو المبلغ مو كبير كتير، لأن هدول ذمة برقبتو الله يرحمو وبرقبتي ورقبة ولادو لازم نوفيها، كل شي إلا الحرام الله يبعدنا عنو».
وتتابع، وكأن صحوة أصابتها فجأة بالقول: «صار برقبتي 3 ولاد، بدي طعميهم ودرسهم، لأن الله يرحمو كان كل همو يعلم الولاد ويربيهم، وكان يقول: بدنا نرجع ع بيتنا ربحانين ولادنا مو خسرانينهم، هنن المال والرسمال لبكرا».
غضب ووجع مكبوت!
لم يخلُ كلام أم حسن من بعض عبارات السب والشتم والتهكم الموجع، على أوضاعها وعلى حالها وحال أسرتها ومآل زوجها، وعن الفقر والعازة والنكران الرسمي لمأساتها كما غيرها، من قبل الدولة التي لم تقدم لهم أي شيء، اللهم باستثناء جرعات العلاج المتأخر في المواساة، مع الكثير من لحظات الصمت الذي يبدو أنها تغلف الكثير من شحنات كبت الغضب المدفون، كما لم تتوقف عن البكاء المتزن، ولم تكن لديها الرغبة في الصمت، وكأن بداخلها بركاناً وحمماً تستعر للانفجار غضباً، إلا أن شقيقها أتى على عجالة، واصطبحها مع أطفالها لداخل المشفى من أجل استكمال بعض الأوراق المستجدة.
لتنتهي حكاية «أم حسن» وهي ماضية تحمل طفلتها الصغيرة، بينما يمضي طفلاها معها متمسكين بمعطفها الذي غدا مغبراً بلون التراب.
وصية واستحقاق!
ترى هل ستتمكن أم حسن من تنفيذ وصية زوجها بتربية أطفالها وتعليمهم كونهم «المال والرسمال لبكرا»، أم أن واقع فقدان معيلها مع الديون «الإرث» التي لا يمكن أن تدفن معه، والأعباء الكبيرة التي ستضطر لحملها وحيدة ستحول دون ذلك؟!
وهل سيثور بركانها المستعر غضباً، أم أنها ستبقى متماسكة في ظل استمرار النكران والظلم الرسمي، والعسف والاستغلال المجتمعي الذي سيزيد عليها ربما؟
وما هي حال شبيهات «أم حسن» وأسرهن ممن كانوا ضحايا «أبطالٍ» لحرب فرضت عليهن، كما فرضت عليهن تداعياتها، عمراً مهدوراً، وفقراً وقهراً واستغلالاً؟
أخيراً، لعل عبارة: «بدنا نرجع ع بيتنا ربحانين ولادنا مو خسرانينهم، هنن المال والرسمال لبكرا» رغم بساطتها وعفويتها إلا أنها عبارة مكثفة وعميقة ستكون برقبة الدولة والحكومة كحق واستحقاق وواجب، تجاه «ولادنا» جميعاً، حالها كحال ورقة الديون المستحقة إرثاً برقبة «أم حسن».