تأخير العودة جمر تحت الرماد
كثيرة هي البلدات السورية التي عادت إلى سلطة الدولة، سواء عبر المعارك، أو عبر التسويات والهدن والاتفاقات، إلا أن بعضها حتى الآن لم يستعِد عافيته بسبب عدم تمكن جميع أهالي هذه البلدات من العودة إليها، أو بعضهم، لأسباب عديدة ومختلفة.
اعتباراً من البلدات الواقعة بمحيط دمشق القريب والبعيد( وادي بردى- شبعا- حتيتة التركمان- دير العصافير- زبدين- المليحة- خان الشيح- السبينة- المعضمية- داريا- الحسينية- الذيابية- برزة- القابون- وغيرها الكثير)، مروراً ببعض أحياء وبلدات مدينة حمص وريفها، وبعض أحياء وبلدات مدينة حلب، وبعض بلدات اللاذقية، وبعض بلدات حماة، والقنيطرة ودرعا، وغيرها الكثير من البلدات التي أصبحت تحت سيطرة الدولة، وبدأت بعض مؤسسات الدولة تستعيد تواجدها فيها، فيما ما زالت بعض المعيقات والعراقيل توضع أمام عودة الأهالي إليها، علماً أنه مضى أعوام على بعضها وهي تحت هذه السيطرة.
أسباب موضوعية واعتباطية!
ما من شك بوجود بعض المعيقات الموضوعية، من أجل عودة الأهالي إلى بعض هذه البلدات، وخاصة ما يتعلق باستمرار تدهور الوضع الأمني والميداني بمحيطها القريب، أو بحجم الدمار، الكلي أو الجزئي، القابل للتأهيل أو غير القابل للتأهيل، وبواقع البنى التحتية والخدمية وإعادة تأهيلها، والمدة الزمنية اللازمة لذلك، وهل تواجد الأهالي يعتبر من معيقات هذا التأهيل، أم هو عامل مساعد على ذلك، وغيرها من العوامل الموضوعية الهامة، التي يجب تداركها من أجل تيسير عودة الأهالي إلى بلداتهم وقراهم آمنين وبالسرعة اللازمة، من أجل استعادة الحياة لهذه البلدات على المستويات كافةً، وخاصة الاجتماعية والاقتصادية.
وقد كثر الحديث الرسمي عن تأهيل الكثير من هذه البلدات والقرى منذ استعادة السيطرة عليها تباعاً، بحيث تم تسجيل العديد من الوعود الرسمية على مستوى إعادة تأهيل البنى التحتية، وعودة المؤسسات الخدمية لممارسة أعمالها فيها، بالإضافة للشروع العملي ببعض هذه المهام في الكثير من هذه البلدات، إلّا أنّ ذلك لم يكن كافياً من أجل السماح بعودة الأهالي إلى بعض هذه البلدات، أو السماح للبعض منهم بذلك، فيما حُرِم آخرون منه.
لنستنتج أن: المعوقات الموضوعية من الممكن تذليلها بتضافر الجهود، بالمقابل هناك عراقيل أخرى، اعتباطية أو ارتجالية، أو لنوايا مبيتة أخرى، تحول دون عودة الأهالي إلى قراهم وبلداتهم، دون تقديم أي تفسير رسمي لذلك.
أمثلة ملموسة
على سبيل المثال، فمنذ شهر آب عام 2016، أي: منذ عام، قررت الحكومة تشكيل لجنة لمتابعة تأهيل البنى التحتية في مدينة داريا، تمهيداً لعودة الأهالي إلى منازلهم فيها، إلا أنه وحتى تاريخه، لم يستطع أي من أهالي بلدة داريا من العودة إليها، على الرغم من أنهم سبق وأن أعربوا للجهات الرسمية عن رغبتهم بالعودة، وإبداء استعدادهم للمساعدة على مستوى التعاون مع الجهات العامة، من أجل تأهيل البنى التحتية تسهيلاً وتسريعاً بتلك العودة، مع استعدادهم للعمل على ترميم ما يمكن ترميمه من منازلهم التي أصابها الضرر أو الدمار، كلياً أو جزئياً، ومع ذلك لم يعد أحد يعلم ما خلصت إليه تلك اللجنة من نتائج، على مستوى عملها والمهمة المناطة بها، كما ما زال الأهالي يراجعون الجهات المعنية في المحافظة والحكومة، من أجل تنفيذ الوعود بالعودة، دون جدوى حتى الآن.
كذلك كانت حال اللجنة الحكومية المكلفة بإعادة الخدمات إلى القرى والبلدات في الريف الشرقي والجنوبي لمحافظة حلب، وعودة السكان التدريجي إلى هذه المناطق، حيث خلصت اللجنة إلى حصر الأضرار ووضعت جدولاً زمنياً لتأهيل البنى التحتية، وتم التوجيه بتنفيذ الأعمال الضرورية لإعادة المواطنين إلى قراهم، إلّا أن واقع الحال يقول: إن هؤلاء لم يتسنَّ لهم العودة، حالهم كحال الكثيرين غيرهم من بقية البلدات والقرى التي استعادت الدولة سيطرتها عليها خلال السنوات الماضية.
بالمقابل: كان هناك تسريع بعودة الحياة إلى بعض البلدات والقرى، على مستوى البنى التحتية والخدمية، كما تم تقديم الكثير من التسهيلات فيها، وخاصة على مستوى إعادة البنية الاستثمارية إليها، بما في ذلك من تقديم القروض والإعفاءات وغيرها، ولعل بلدات بلودان والزبداني تعتبر أمثلة حية أمام الجميع على إمكانية التنفيذ السريع للوعود، والتسهيلات التي من الممكن أن تقدمها الدولة من أجل تذليل صعوبات عودة الحياة لبعض البلدات، وتيسير متطلبات ذلك، ولو كان بعض ذلك على حساب الخزينة العامة، وللمصلحة الخاصة الاستثمارية.
أسئلة مشروعة
الأسئلة التي تتبادر للذهن بعد استعراض هذه الأمثلة القليلة، هي:
ماهي الاعتبارات التي يتم من خلالها تسريع وتيرة عودة الأهالي إلى بلداتهم وقراهم؟
وما هي السبل الكفيلة بتقديم الدعم الحكومي العادل للبلدات كافةً والقرى على قدم المساواة، من أجل تذليل الصعوبات كافةً التي تحول دون عودة الأهالي جميعاً إلى بلداتهم وقراهم؟
وغيرها الكثير من الأسئلة الأخرى، التي تصب في المحتوى والمضمون نفسيهما، لتصل إلى الغاية والنتيجة نفسيهما، وهي عودة الأهالي بكل يسر إلى بلداتهم، وبشكل عادل ودون عرقلة أو إبطاء.
تخوف وخشية
بعض الأهالي بدأوا بإبداء تخوفهم وخشيتهم، جراء تأخير العودة إلى بلداتهم وقراهم وأحيائهم، ليس بسبب طول مدة نزوحهم عن بيوتهم وأرضهم، ولا بسبب رغبتهم باستعادة حياتهم بأسرع وقت ممكن خلاصاً من حال التشرد، وما يتكبدونه من إنفاق جراء ذلك، وخاصة على مستوى بدلات الإيجار الشهري، وما يمكن أن يجنوه من عائدات في حال استعادة أنشطتهم الاقتصادية في بلداتهم ومناطقهم، وخاصة بحال وجود أراض زراعية بممتلكاتهم، ولا بعدم وجود مبررات مقنعة لهم تحول دون عودتهم، بل في ظل الترويج للمشاريع الاستثمارية بهذه البلدات تحت يافطات و اعادة الإعمار، وما رشح بشكل رسمي عن بعضها، بمعزل عنهم وبعيداً عن مصلحتهم.
تكسُّب على حساب التشرد!
وبالعودة لِمثالنا السابق نفسه، داريا، فقد تم طرح موضوع تطبيق المرسوم 66 على هذه البلدة، واعتبارها منطقة تنظيمية في ريف دمشق، أسوة بما طبق على منطقة خلف الرازي في دمشق وفقاً للمرسوم نفسه، مع فارق جوهري وأساسي، هو أن المرسوم عندما طُبق على منطقة خلف الرازي كان أهالي المنطقة موجودين فيها، فيما كان أهالي داريا بعيدين عنها.
فإذا كانت سلبيات تطبيق المرسوم على منطقة خلف الرازي قد حصدها الأهالي، وما زالوا، فيما إيجابياته حصدها التجار والسماسرة، وبوجود الأهالي في ممتلكاتهم وأرضهم، فكيف الحال بما فيما أن يحصد من سلبيات من قبل أهالي داريا، وهم بعيدون عنها، وكم ستكون حصة التجار والسماسرة في ظل هذا الغياب القسري لأصحاب الأملاك عن ممتلكاتهم.
مع عدم إغفال الترويج لإمكانية توسيع تطبيق هذا المرسوم على الكثير من المناطق الأخرى، التي سيتم اعتبارها خاضعة للتنظيم وفقاً لمنطوقه، وربما بعض الأحياء والبلدات والقرى التي عادت غلى سلطة الدولة، ولم يتمكن أهلها من العودة إليها حتى الآن بمعزل عن تعميم تطبيق هذا المرسوم، أو غيره من المشاريع التي تصب في المحتوى والغاية نفسيهما، والتي تتمثل بمصلحة المستثمرين بعيداً عن مصلحة الأهالي، وهو ما رشح بشكل رسمي من قبل الحكومة على مستوى داريا حتى الآن، على سبيل المثال، لا الحصر، وقيل بأنه سيتم تطبيقه على بعض أحياء حمص والمناطق المحيطة بها كذلك الأمر.
العودة سبيل للاستقرار
لن نكون مبالغين إذا قلنا: إن عودة الأهالي إلى مدنهم وأحيائهم وبلداتهم وقراهم تعتبر من أهم عوامل الاستقرار المنشود ومن أساسياته، ليس من باب محاولة إغلاق ملف النزوح وتداعياته السلبية على المستوى الفردي الخاص والجمعي العام في هذه المناطق فقط، بل وعلى مستوى استعادة الاستقرار لمناطق استقطاب هذا النزوح أيضاً، وخاصة ناحية تخفيف الضغط السكاني في هذه المناطق، مع ما خلفه ذلك من استنفاذ للبنى التحتية والخدمات، وفرص العمل والإسكان فيها، وغيرها من القضايا والتداعيات والسلبيات الأخرى.
ولعل الأهم من هذا وذاك هو استعادة الحياة الاقتصادية والاجتماعية في هذه المناطق كلها، وما ستليها من مناطق أخرى لاحقاً، بما يمهد للاستقرار العام، وبما يمهد لإمكانية حسن استثمار الإمكانات، وتوجيهها بالشكل المطلوب، على مستوى النمو التنمية، من أجل التسريع بالخروج من تداعيات الحرب والأزمة بأسرع وقت.
على ذلك فإن كل إعاقة أو عرقلة تحول دون عودة الأهالي إلى بيوتهم، تصب باتجاه استمرار تداعيات الحرب والأزمة، وتطيل من عمرها، ويفرغ المصالحات، والهدن من محتواها، وكل طرح يصب في هذا الاتجاه، تحت أية يافطة أو عنوان أو ذريعة، في ظل التغييب القسري للأهالي عن أرضهم وممتلكاتهم وحقوقهم، لا يخدم إلا مصلحة معرقلي الحلول المنشودة والمستدامة، بمختلف تموضعاتهم ومواقفهم، على حساب مصلحة الأهالي والوطن بالنتيجة، ولن يكون إلا جمراً جديداً تحت الرماد، لن يلبث إلا أن يشتعل مجدداً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 820