مطبات أطفال في مهب التسول..

(نور) الصغيرة تكذب أيضاً.. في المقهى الصغير الذي اختاره صديقي المفلس بعد أن صارت مقاهي الثقافة خمس نجوم- وقفَت إلى جوار طاولتنا الرخامية، مدت يداً صغيرة متسولة، سألها محمد: كيف حال أبيك يانور؟ أسهبت في شرود لم يكن طويلاً أو حزيناً: لقد مات منذ شهر.

أدركنا أنها تكذب، دارت نور مع رفيقة أكبر منها سناً في أرجاء المقهى الفقير، البعض مد يده لها، والآخرون إما يتأمل دخان أرجيلته، أو متوار خاف جريدة، أو يدعي غرقه بحديث هام، ومن بينهم من يعرف الصغيرة فاكتفى بحديث ودي.
نظرنا إلى بعضنا، ثمة آه مدفونة تتصاعد، قال لي: لا يمكن أن أنسى منظر ذلك الطفل وهو يرتجف في الشتاء الماضي بعد أن طرده صاحب المقهى المكيف، وقتها كنا نتابع كالعادة مباراة لبرشلونة على محطة مشفرة، الولد الصغير لم يكمل من جسده سوى الرأس حتى دفعته الأيدي القاسية إلى الماء والشارع.
عادت نور مع رفيقتها وكأنها أحست أننا لم نصدق روايتها، قولي لهم: متى مات والدي، أجابت البنت الأكبر: من زمن، من أكثر من ثلاث سنوات، ثم ركضتا خارج المقهى، لم تكن عيون نور حزينة أو دامعة عند ذكر موت أبيها، ولكننا كنا نعرف أنها تكذب، مع ذلك شيء في داخلنا تواطأ مصدقاً.
نور ليست الوحيدة التي تدور في شوارع دمشق، مقاهيها، حدائقها، مطاعمها، في ليلها، نهارها، حرّها، بردها، على إشارات المرور، في الأسواق.. لا شيء يوقف هذا الدوران الدائم في سبيل لقمة العيش، أو في أسوأ الأحوال يرتزقن تحت إشراف متسول كبير، أو صانع عاهات.
في سوق الصالحية وهو أكبر الأسواق الدمشقية، يرتع الهائمون على وجوههم. فجأة أمام المحل الذي تحاول أن تنتقي منه بنطالاً أو حذاء، يمسك يديك طفل لم يتجاوز السنة السادسة ويكيل لك الأدعية والرجاء.
بالكاد تستطيع الفرار من جموع المتشردين في آخر السوق حيث اعتاد المتسوقون أن يرتاحوا في ساحة عرنوس، من يتفيأ، من يشرب شيئاً بارداً، امرأة تستريح مع أطفالها على كرسي خشبي، وهنا يلتقطك بائع الشاي الصغير، أو بائع البوظة المتجول، أو طفل يحمل جعبة من البالونات المثيرة لبكاء طفل في حضن أبيه.
في سوق الحميدية أيضاً لابد من متسول صغير يجرك من يدك بالدعاء والرجاء، أو صغيرة تفترش الأرض تنشج بما يحز القلب، أما الباعة الصغار فيحملون الجوارب والأفاعي المتحركة وألعاب الأطفال.
في طريق العودة إلى (البرامكة) عشرات الأولاد الذين يمسكون بالزوايا، أمام الأنفاق، أبواب الجامعات، صامتون، نظرات منكسرة، وأمام كل واحد منهم ميزان للوزن، بخمس ليرات تعرف وزنك، ووزن أفراد عائلتك، تضع الخمس ليرات في الكف الصغيرة وتمضي.
عند نهاية شارع الباكستان، في حر الظهيرة تجتمع العربات الصغيرة المحملة بقطع السمسم، جوز الهند، البسكويت، أربع أو خمس عربات في المكان نفسه، بنات لم يكملن العاشرة، وجوه مغبرة، شعر أصفر محروق، وأياد بأظافر متسخة، ونظرات متوثبة وذئبية، فتيات صيرهن الشارع (ماوكلي) في غابة المدينة، نظرات متحفزة وعدائية، حافيات أكل الزفت الساخن نعومة الأرجل الصغيرة.
في نهاية شارع بردى، فتى يمسك بقطعة قماش وسطل صغير يبلل به القطعة القماشية، يد صغيرة تمتد إلى بلور السيارة التي أجبرتها الإشارة على التوقف، تمسح اليد بالكاد طرف البلور، هناك من ينهره، أو يد تمد خمس ليرات.
على الإشارة المرورية نفسها، ولد يمد برجاء أكياس ورق المحارم، ورجل عجوز على الرصيف يضع أمامه كومة من أكياس المحارم يبدو كأنه والده أو جده.
أمام جامع السادات في البرامكة أطفال ونساء يبيعون الدخان المهرب، وفجأة يركض الجميع باتجاه الحواري الجانبية، شرطة المحافظة قادمة.
بالقرب من وكالة سانا وانتهاء بالشارع الخلفي لها، أولاد يحملون الجوارب، يقفون خلف عربات الفواكه، علب السجائر الأجنبية، أكياس النايلون.
أمام المخابز الاحتياطية (أفران المزة، ابن العميد)، فتيات من كل الأعمار، أطفال من الجنسين يهرعون باتجاه السيارات العابرة بسرعة ليبيعوا ما حصلوا عليه من ربطات خبز، الربطة ثماني أرغفة بعشرين ليرة، في كل الأوقات والفصول، في السنة الماضية دهست سيارة مسرعة ولداً يبيع الخبز بعد أن أفلت من يد عمته، الطفل الصغير كان وقتها يقضي عطلته الانتصافية بائعاً للخبز.
وزارة شؤوننا الاجتماعية.. والعمل، ليستِ وزارة فخرية في حياتنا الاجتماعية، إن
مئات الأطفال في شوارع دمشق... وهو ملجؤهم الوحيد..

معلومات إضافية

العدد رقم:
413