الرفيقة أم منال.. وداعاً ثمة أشخاص لايمكن أن يختصرهم الكلام...
أقامت اللجنة المنطقية للحزب الشيوعي السوري بدمشق حفلاً تأبينياً للرفيقة الراحلة حفيظة أبو طربوش «أم منال»، بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاتها، شارك فيه حشد من رفيقاتها ورفاقها الشيوعيين وعدد من الصديقات والأصدقاء.
الرفيق مظهر دمشقي عضو هيئة الرئاسة، عريف الحفل، افتتح كلمات الرثاء قائلاً:
فراقٌ مرير... فراقٌ أبدي... ثُكلنا به وتيتمنا..
كانت الرفيقة أم منال أماً... وأختاً للجميع... لم يشعرْ من يعرفها يوماً أنها غريبة عنه.
طيبة... مضيافة... كريمة وحنون رعت بناتها فكانت الأمَّ والأبَ
حضنتهم بدفئها الذي لمسناه جميعاً، لم تبخل عليهن بوقتها.. وجهدها.. وعملها
علمتهمْ.. وأنشأتهم على أخلاقياتها الكريمة.. صديقةٌ ودود... قريبةٌ وبعيدةٌ لا تثقل على أصدقائها وصديقاتها ولكنها تتقرب منهم... تحبُّهم وتحترمُهم مستقيمة بعلاقاتها... نقية.. طيبة..
يعزينا في فراقِ أحبتنا أنهم دائماً يتركون في أعماقنا الذكرى الطيبة ودوافع دائمة للفرحِ والأمل والإقبال على الحياة وعلى النضال والمضي دائماً بقلوبنا وأبصارنا إلى الأمام.
بعدها ألقت الرفيقة هيلين الجنابي كلمة باسم أسرة الفقيدة قالت فيها:
مساء الخير...
لم أتخيل يوماً أن أكون في موقفٍ كهذا، أقوم بمسؤولية ما، في أمرٍ ما، إزاء أمي.. لا لأنني لست على قدر المسؤولية، بل لأن أمي عودتني، كما عودّت إخوتي على أن تتحمل هي مسؤولياتنا في كل شيء، مذ كنّا صغاراً حتى لحظة رحيلها عنا. فهي التي واجهت الحياة وحيدة بكل صعوباتها في غياب والدنا، وهيأت لنا نحن الصغار (أنا وأخواتي) طيلة سنوات، حياة طبيعية في ظروف غير طبيعية، حريصة كل الحرص على أن نكون كما نحن الآن.
كبرياؤها كان يزيد من أعباء الحياة عليها، عطائها الدائم كان يشعرها بقوة وجودها، صمتها في أحيان كثيرة كان يأتي من قناعتها بأن الكلام ليس دائماً مجدياً.
أمي التي أريد التحدث عنها، كانت تحب الناس، كل الناس، فقط لأجل الحب، ودون مقابل، بل في كثير من الأحيان على حساب راحتها وحياتها الخاصة، أقول ذلك مع قناعتي التامة بأنكم تعرفون ذلك من قبلي، وربما أكثر مني، أمي التي أريد التحدث عنها، هي تلك المرأة التي لم تعرف في حياتها سوى العطاء، والحنان، لكل من التقاها وعرفها، هي تلك المرأة التي زرعت فينا الإيمان بالحياة.
رغم خيباتها ومرارتها في لحظات كثيرة.
وعمقت في شخصيتنا حب الناس، ومشاركتهم في صنع الحياة التي كانت تؤمن بها، حياة تليق بالإنسان في زمن خارج عن زمامه.
يصعب على المرء أن يتحدث عن أناس كان لهم الفضل الأول في وجوده وشكل قناعاته، وإحساسه بذاته وبدوره وبمسؤوليته في الحياة.
لذلك يصعب عليّ التحدث عن أمي أكثر من ذلك، أمي التي كانت نواة حياتنا. وربما الكلمات التي نقلتها على مسامعكم لم تكن سوى عجز مني في أن أقوم بواجب عليّ تذكره طوال عمري، وهو ذكرى أمي.
غياب أمي يعني لي ولأخوتي غياب جزء حيوي من حياتنا، وأجزم أنه يعني لكم جميعكم الكثير.
سلام على روح أمي، وشكراً على وفائكم لذكراها بحضوركم هذا.
وقدم الرفيق الاتحادي نور طه الخاطرة التالية:
هذه القصيدة مهداة إلى أرق وأطيب إنسانة، إلى أمي الثانية أم منال..
خالتي أم منال
رحلتِ... لكنما وجهكُ
نلحمهُ بل نراهُ بيننا
في وجوهِ الأمهاتْ
في وجوهِ العاملاتْ
كما الضوءُ في كل مكانْ
يا أمنا
يا رمز البساطة
ورمز النضالْ
وصتك كان السلاح
في مظاهرات الكفاح
يا محبة الأطفال والطفولة
دخلت قلوبنا بكل سهولة
خالتي أمَّ منال
يا أم اللاجئين المساكين
والغرباء والمحزونين
في كلِّ وقت وكلِّ حين
بك اقتدينا البارحة
وسنقتدي اليوم وغدا
خالتي أمَّ منال
من يرثي وطناً؟
ومن يرثي شعباً؟
اختطفك الموت
وأخفاك عن عيوننا
وحرمنا من صوتك الشجي الطيب
لكنه لم يختطفك من قلوبنا
لا ولا من شعورنا
باقيةٌ أنت يا خاله
في وجوه الأمهات
في وجوه العاملات
كما الضوء في كل مكان
يا خالتي... يا أمَّ منال.
وألقت الصديقة هناء المصري كلمة باسم صديقات الفقيدة قالت فيها:
في الذكرى الأليمة لرحيل الرفيقة أم منال نقف لنقول وداعاً وفي ذمة الله. أيتها الأم الحنون والصديقة الصدوق.
كل من عرف أم منال كان يعرف أنها كانت أم الكثير من الشباب والصبايا بكل ما تحمل الأمومة من معنى فهي نبع عطاء لا ينضب نبع حب ووفاء للمبادئ السامية التي عاشت من أجلها وحرصت على أن تتحقق. أعطت الكثير من عمرها وحياتها لإيمانها بأن العطاء هو السمو والتعالي عن الصغائر، أعطت كل ما لديها ليس فقط لزهرات ثلاث هن بناتها بل لحقل أزهار قاسيون وهو يقف شامخاً مطلاً بكبرياء على دمشق الفيحاء، دمشق التاريخ والحضارة، أعطت للكثيرين الذين احتضنتهم قاسيون برفق وأناة وما زال.
عاشت صامت ورحلت صامتة، لكن صمتها كان أقوى وأروع من كلامها هي رمز للتضحية من أجل المبدأ والأمومة والعطاء، نبيلة متواضعة عطاؤها لا تحده الآفاق ولا المسافات.
ثم ألقت الرفيقة أم عصام كلمة رفيقات الفقيدة قالت فيها:
أيتها الرفيقات أيها الرفاق أيها الأصدقاء أيتها الصديقات:
نجتمع اليوم في هذا المكان لنتذكر رفيقة غالية على قلوبنا غادرتنا خريف هذا العام، الرفيقة حفيظة أبو طربوش (أم منال)، وقبلها الرفيق كمال مراد، وفي بدايته ودعنا الرفيق أبو محمد الملا، إنه لعام قاسٍ على منظمة دمشق.
غادرت الرفيقة، أم منال بصمت بعد صراع مع المرض الذي أنهك جسدها وقواها وألزمها بيتها قبل الرحيل.
عرفت الرفيقة أم منال منذ فترة طويلة، عرفتها مثالاً للشيوعية الملتزمة بمبادىء الحزب وأفكاره مدافعة وبجرأة وقوة عن مواقف الحزب وسياسته، رافضة للظلم والقهر، مناصرة للفقراء والمحرومين.
عملت في النقابات وأخلصت لذلك، وبذلت كل ما بوسعها لتحسين وضع العمال وخاصة النساء منهم، لم تنقطع عن عملها الوظيفي والحزبي حتى في أشد الأوقات تنزل ولو لساعة أو ساعتين.
التزمت الرفيقة بميثاق الشرف لوحدة الشيوعيين، ولبت دعوة الحزب بعودته إلى الجماهير من خلال الأنشطة المختلفة والمشاركة بالمسيرات والتظاهرات والاعتصامات حيث دأبت على المشاركة في الاعتصامات والتظاهرات إلى أن اشتد المرض عليها.
ربطت الرفيقة أم منال بين الهم الوطني ومعاناة الجماهير الشعبية في الداخل فكانت تعكس لنا معاناة الناس وهمومهم، وأدركت أن الصمود في وجه المؤامرات التي تحاك على منطقتنا وبلدنا سورية لا يكون إلا بمزيد من الوحدة الوطنية، وبمزيد من الديمقراطية للقوى الوطنية التقدمية ووضع الحلول الملائمة للقضايا الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
أيتها الرفيقة الغالية، لقد كنت أماً عطوفاً، مدافعة عن بيتها وكيانها أحسنت تربية بناتك عملت ما بوسعك ليكونوا في أحسن حال وأفضل المراكز، كم تمنيت لو طال عمرك لتري النجاح الذي يحققنه وتفرحي بهن
أما رفيقاتك ورفاقك فكلهم يذكرون بيتك المفتوح دائماً لهم وصدرك الرحب لاستقبالهم وكرمك وطيبك النابع من القلب.
لن أقول وداعاً أيتها الرفيقة الراحلة في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها بلادنا اليوم، بل أقول لك عهداً سنكمل المشوار مع الرفاق بهمة وعزيمة لا تلين.
ثم قدم الرفيق حبيب الضعضي كلمة اللجنة المنطقية قال فيها:
ثمةَ أشخاصٌ لا يمكنُ أن يختصرَهمُ الكلامُ... يحملونَ قضاياهم بعنفوانٍ... ويرحلون بالقدْرِ نفسه من الصلابةِ والثباتِ...
وسيرةُ حياةٍ والمواقفُ كثيرةٌ...
أن تنذرَ حياتَها لتربيةِ بناتِها بعد أن فارقَها رفيقُ دربِها مبكِّراً... حيث الصراعُ من أجل تأمينِ لقمةِ العيشِ وتكاليفِ التربيةِ والدراسةِ هو موقفٌ...
أن تكون نقابيةً صادقةً وشجاعةً بيدين نظيفتين صامدةً بوجهِ كلِّ محاولاتِ الإفسادِ... هو موقفٌ... فحتى آخر أيامها كانت تذهب إلى عملها تتكئ على إحدى بناتِها... لأنَّ هناك عملاً لم يُنجزْ بعد أن تبقى مناضلةً طيلة حياتِها تشاركُ في جميع الأنشطةِ وخاصةً الاعتصاماتِ والتظاهراتِ بعزيمةِ الشبابِ... بحنجرةٍ صارخةٍ وقبضةٍ مرفوعةٍ ترددُ الهتافاتْ...
وعلى الرغم من الصعوباتِ التي ازدادت عليها بعد أن داهمَها المرضُ والذي خلت معَهُ في صراعٍ قاسٍ على مدى سنواتْ... ظلت دائماً تقفُ وتسانُد كلَّ من تعرفهم بإخراجهم وأحزانهم، وتقدمُ كلَّ العونِ حتى فوق طاقتها... فعند نجاحِ أيِّ ابن لصديقٍ أو صديقةٍ يجبُ أنتقدمَ هديةً... وفي أيِّ عيدِ ميلادٍ يجبُ أن تقدمَ باقةَ زهورٍ، وفي أيِّ عزاءٍ لا بدَّ أن تساهمَ في كل شيءٍ/ لمجرد أن تعلمَ ولو بالصدفةِ بمشكلةٍ أو مصيبةٍ ألمت بأحدٍ ممن تعرفُهم أو لا تعرفُهم/ تتجاهلُ نفسها ومرضَها في سبيلِ المساعدةِ... كانت تتألمُ بصمتٍ.. دون أن تشتكي... أمُّ منال كانت الأمَّ والأبَ لبناتها... وكانت أيضاً الأمَّ بحقٍّ ليس لبناتها فقط... كانت الأمَّ بكلِّ ما تحملُ الكلمةُ من حبٍ وحنان لكلِّ الشباب والصبايا الذين عرفوها... وعرفتهم.
نتألم كثيراً بافتقادنا لرفاقِنا ورفيقاتنا، ولكن ما يبقى لنا هو ذكراهم وبصماتهم التي تركوها عبر نضالِهم الذي ما انقطع يوماً ضدَّ الظلمِ والاستغلالِ ومن أجل كرامة الوطن والمواطن، ومن مواقفِهم الشجاعةِ والجريئة رغم كلِّ الضغوطات والمصاعبِ والانكسارات التي عاشوها، علمونا بحقٍ أن دربَ النضالِ جديرٌ بأن يُعاشَ، نمشيه بخطى ثابتةٍ... فأن يكون الإنسانُ مجرد عابرِ سبيلٍ في هذه الحياة أمرٌ سهلٌ جداً... ولكن أن يكونَ مناضلاً عنيداً إنساناً... أماً وأباً... أخاً وصديقاً مخلصاً لأفكاره ولمبادئه ولشعبه... هذا أمرٌ عظيمٌ...
وختاماً نقولُ لذكرى رفيقتنا أم منال/حفيظة أبو طربوش وذكرى كلِّ الرفاقِ الذين غادرونا...: ستبقون بيننا روحاً وكبرياءً وشموخاً... ونقولُ لكم: إننا لن نكون عابري سبيل...