كمال إبراهيم كمال إبراهيم

حول وحدة الشيوعيين السوريين

في التجربة السورية، لمحاولات توحيد الشيوعيين السوريين، ثمة الكثير من الأسئلة والاستخلاصات ولعل الأهم في هذه الأخيرة، أن هدف تلك المحاولات لم يثمر عن شيء. ذلك بداهة لأن هدف التوحيد لم يتم وضعه في المجرى الفعلي ـ الواقعي لإمكان تحققه. وإلا لما كنا أمام هذا الواقع المزري، لتشرذم الفصائل الشيوعية وتبعثرها، الذي يعني أن هنالك قصوراً مخيفاً في وعي هذه الفصائل لذاتها. ذلك لأن أقصى ماشاهدناه في محاولات التوحيد السابقة هو ذلك النوسان أو التنقل لأفراد بعينهم بين هذا الفصيل أو ذاك الذي كان يزيد من تعقيد المشكلة وتفاقمها.

فالمسألة بأكملها تحتاج إلى إعادة تحرير وفق مفردات الخطاب الديني، ولكن انطلاقاً من فهم جديد، مغاير، مختلف في طرح هذا الموضوع، ليس باستهدافه النهائي ألا وهو الوحدة بل بوسائل وآليات تحقق ذلك الهدف. فوحدة الشيوعيين وانطلاقاً من الشرطين الاجتماعي ـ السياسي الراهنين، لم تعد تحتمل ألاعيب تكتيكة، محكومة بدوافع حزبية أو فردية ضيقة. لأنها تتعلق الآن بوجود أو لا وجود هذا الفكر المبدع ليس في السياسة فقط بل وفي المجتمع أيضاً. وذلك في ظل تنامي وازدهار الفكر الليبرالي والذي قد ينجح في دفع اليسار عموماً والشيوعيين خصوصاً نحو انزلاقات خطرة، في حال استمرار تواضع المشروع الإصلاحي لهؤلاء جميعاً واقتصاره على مجرد إحداث تغيرات طفيفة لاتزعج أحداً.

فمن الأخطاء الذاتية التي لعبت دوراً معيقا ًومازالت في التقدم نحو هدف الوحدة ذلك الموقف النخبوي الضيق لتيارات تلك الفصائل، الذي مازال يعتقد أن الوحدة يمكن أن تتم بالحوار بين هذه القيادات للوصول إلى مايشبه التوافق حول المسائل المتعلقة بالسياسة والتنظيم، أو ذلك الخطأ المتمثل بدعوة الجميع للانضمام إلى هذا الفصيل أو ذاك. ومن الواضح أن دعوة كهذه تشطب وبجرة قلم على العوامل والأسباب التي كانت وراء الانقسامات المتتالية. . . والتي لم تكن تنظيمية فقط، بل بعضها تم على أساس فكري وسياسي.

وبصرف النظر عن تلك العوامل والأسباب والتي يمكن معالجتها بشكل منفصل فإن أية دعوة للوحدة، من المفترض أن يسبقها الإقرار بالوجود العياني والمستقل لتعدد الفصائل الشيوعية، وهذه المسألة لاتخص بلداً كسورية وحسب، بل من النادر أن نجد بلداً وعلى امتداد خارطة البلدان المتخلفة، إلا وانقسم فيه الحزب الشيوعي إلى حزبين أو ثلاثة وبمسمى واحد (مصر ـ الأردن ـ فلسطين ـ سورية ـ الهند الصينية ـ أمريكا اللاتينية) ولكن كيف وبأية آلية يمكن أن تتم هذه الوحدة؟

فمن الثابت أن الحياة قد أجابت على الكثير من الأسئلة التي تهم الشيوعيين ووحدتهم، وضيقت مساحات الاختلاف، لكن مايتوجب الاعتراف به أن الحياة، كانت قد عمقت الكثير من مساحات الاختلاف السابقة، لذلك لايجوز من وجهة النظر المبدئية، استخدام النزعة التكفيرية ضد أحد على الصعيد الفردي. كما لايجوز استخدام مقولة (الفرقة الناجية) على الصعيد الحزبي، إن المطلوب النظر إلى جدل الاختلاف ـ الاتفاق، كسلاح معرفي يجيد إعادة تركيب وتأسيس البنية التنظيمية القادرة على حمله، وأن يكون مصدراً لذلك التوتر المثمر والخلاق ـ كمعادل موضوعي لترهل الحزب وانحطاطه سياسياً وتنظيمياً. فالشيوعي هو كل من يعرّف نفسه بذلك. ومستعد للعمل داخل هذه البنية، فمن الطفولة بمكان الاعتقاد بأن هذه الوحدة يمكن أن تتم عن طريق لقاءات في غرف مغلقة  وماعلينا إلا انتظار ماسيتم الاتفاق عليه. فصيرورة الوصول إلى الوحدة أعقد من ذلك، وسوف تمر بمراحل أو محطات انتقالية متعددة ـ ومن أهم موجباتها ومقتضياتها، طرح كل المشاكل التي تقف عثرة أمام تحققها على القواعد والأصدقاء المخلصين للشيوعية، فالمسألة تخص الجميع وللجميع الحق في إعطاء رأيهم حول أدواتها ووسائلها.

إن عمل الشيوعيين السوريين التوحيدي ولكي لايكون ككل المحاولات السابقة والفاشلة عليه التفحص والنظر الجريء في مجموعة من المفاهيم كانت وماتزال تشكل عامل إرباك وتشويش منها:

1 ـ علاقة الحزب بالطبقة: فالحزب ليس مؤسسة أو جهازاً تحكمه علاقة تضايفية أو وظيفية بالطبقة، بل هو «الجزء الواعي من الطبقة» كما يقول لينين في إفلاس الأممية الثانية. إنه دماغها المفكر وعقلها المخطط، هذا الجدل لعلاقة الحزب بالطبقة، لم تستطع إدراكه مدرسة «السلوكيات» أو «المدرسة الوظيفية» لدروكهايم، الذي كان قد طبع الحزب بطابع المؤسسة أو الجهاز. إن المنهج الوظيفي الذي يعدم مبدأ السببية الجدلي ويلغي دور الفاعلين الاجتماعيين المكونين للحزب، بالتركيز على النتائج بمعزل عن أسبابها، وبالانطلاق من الدور، النسق، الذي ينتظم فيه الفرد لامن الفرد ذاته، لايستطيع إدراك مغزى الاستبدال الذي كانت تقوم به الطبقة العاملة تاريخياً، استبدال حزبها عندما يكف عن تمثل مصالحها، الانتقال من الأممية الأولى إلى الثانية ثم إلى الثالثة على يد لينين، فهي لاتعطي حزبها شفاعة مطلقة إلا بالقدر الذي ينجح في تمثيل مصالحها في توازنات القوى القائمة، وهذا ماتم على يد كاسترو وغيفارا عندما استبدلا الحزب الشيوعي الكوبي بحركة 29 تموز والتحاق ذلك الحزب بهذه الحركة في العام 1975.

2 ـ الماركسية والفكر الماركسي اللينيني: من الصعوبة بمكان وضع إشارة مساواة بين الماركسية اللينينية وبين الفكر الذي حاول ترجمتها، فهما ليسا منفصلين لكنهما ليسا متطابقين، ذلك لأن هذا الفكر حاول «تبيئة» الماركسية اللينينية في شروط اجتماعية شديدة التباين وداخل أنسجة اجتماعية مختلفة، بما يتوافق مع تركيبة وخصوصية الإرث الثقافي والقيمي لهذه المجتمعات، لذلك من الخطأ إخضاع الاختلاف في آلية ووسائل هذه «التبيئة» لثنائية / خطأ وصواب / فالأمر هنا يتعلق بإعادة إنتاج «منطوق» الماركسية اللينينية وفق متطلبات تلك المجتمعات وحاجاتها المادية والروحية في آن معاً، على أن تتم هذه العملية في نفس اتجاه الماركسية ومنهجها، هذا المنهج الذي لايمكن تجاوزه لأنه وكما يقول لوكاش: «منهج التجاوز».

وسوف نتوقف فقط عند النقطتين التاليتين لدلالة علاقتهما البليغة بهذا الموضوع.

- يقول الرفيق يوسف يزبك في حكاية الأول من نوار: «لم نكن نعرف الماركسية اللينينية عندما انبرينا بتأليف أول حزب شيوعي».

- ويؤكد المفكر العراقي فالح عبد الجبار في إحصائية تم إعدادها لأحد أعداد النهج: «لاتتجاوز نسبة ماترجم من أعمال ماركس إلى العربية الـ 40%».

نحن إذاً وبصدد قراءات متعددة للماركسية اللينينية، بعضها يعود لأسباب تتعلق بحدود الاطلاع عليها، وبعضها الآخر يستمد مبررات وجوده من كون هذه المرجعية الفكرية والسياسية تحتمل هذه القراءات. وهذا مصدر قوة لهذه المرجعية فيما لو أجاد الماركسيون اللينينيون إعادة ربطها بالمنهج المادي الجدلي وباعتبارها، شكلٍ تجل له، وباعتباره العنصر الأكثر  ثباتاً في هذه المرجعية. نقول ذلك لأن ماركس أو لينين كان يتحرك داخل نظام معرفي محدود بشرطيه الاجتماعي ـ التاريخي، وليس خارجه، ولعل قوة إبداع هذا الفكر تكمن في اشتراط إحالته إلى هذين الشرطين، وإلا لكنا أمام شكلاً من أشكال التعاطي الغيبي المقدس مع الفكر الذي تستمد منه كل عناصر التحجر والعقائدية.

3 ـ الاختلاف السابق والحالي، حول مضمون حركات التحرر الوطني، ومحتواه الطبقي، الوطني، ومدى صلاحية استخدامه حالياً كمفهوم يستغرق الديمقراطية، وإشكالياتها، وذلك بعد  أن انتقل ولأول مرة التناقض الرئيسي إلى داخل النظام الرأسمالي بعد 1917 وتراكب مع التناقض الأساسي في تلك البلدان.

4 ـ صفتا اللاتجانس واللاانتظام، اللتان ترافقتا مع شروط تشكل الطبقة العاملة، سبب الطابع الاستقطابي للبرجوازية وليس التجانسي، وانعطافه على هيئة وعي متفاوت وحسب مواقعها في الإنتاج (زراعية ـ صناعية ـ ريفية ـ مدنية ـ تجارية) وتأثر وعي تعبيرها السياسي أي الحزب بهذا التنوع.

إنه لمن الطفولة حقاً، الاعتقاد بأن مستقبل وحدة الشيوعيين السوريين، يتوقف على قرارات جريئة تتخذها القيادات التاريخية لهذه الفصائل، فالأمر لايتعلق بالقرار من الناحية الصورية، بل في خلفية التفكير السياسية والتنظيمية التي تجعل من قرار كهذا ممكن الوجود، إنه يتعلق بموروث تنظيمي وسياسي خاطئ، استمر طويلاً، وأعيد إنتاجه بممارسات سياسية وتنظيمية متعددة، كان سببا ًأساسياً في مسلسل الانقسامات، الذي ترك فراغاً سياسياً وتنظيمياً حاولت ملأه أحزاب ومجموعات شيوعية كحزب العمل الشيوعي، رابطة الشغيلة، المنظمة الشيوعية العربية. فالرؤية الجديدة لوحدة الشيوعيين السوريين ترتكز على النقطتين التاليتين:

1 ـ إعادة الاعتبار لمبدأ الاتفاق ـ الاختلاف اللينيني وجدلهما. فالخطوات الأولى للعمل المشترك تبدأ من تلك النقاط التي ليست مثار اختلاف بين الشيوعيين (القضايا المطلبية ـ الوطنية) فالعمل الميداني ووحدة الإرادة بالعمل وماهي أرقى أشكال الحوار، التي من شأنها أن تقوم بتفعيله في المستويات الأدنى.

2 ـ استخدام الماركسية اللينينية كسلاح معرفي مبدع، في خلق وإعادة تأسيس بنية حزبية من طراز حديث تستطيع إعادة الروح لذلك المؤتمر المثمر الخلاق ـ كمعادل نقيض ـ لترهل الحزب وتراجعه.