سياسة فرض الأمر الواقع من جديد مرفأ اللاذقية تتقاسمه وتنهشه القوى الأجنبية المستغلة
ها هي يد الاستثمار تعود لتسيطر على واحد من أهم المرافق الحيوية في البلاد ببساطة مدهشة.. إنه مرفأ اللاذقية، الذي لم ينتزعه أصحاب الحق فيه من أيدي المستثمرين منذ نحو نصف قرن إلا بعد معارك شعبية وعمالية عنيفة وطويلة، سقط فيها بحارة وعتالون وعمال وطنيون.. اليوم تقدم الحكومة المرفأ للمستثمرين على طبق من ذهب، معرضة عن رأي الطبقة العاملة والنقابات والفعاليات الوطنية.. وهي ماضية في هذا الاتجاه، وهناك مستثمرون آخرون ينتظرون في الطابور.. ولا نعلم ماذا ستكون الهدية القادمة؟.
أرباح ونمو رغم السياسات الهدامة
كانت شركة مرفأ اللاذقية قد بدأت تتعافى بفضل دأب عمالها وتفانيهم بالعمل، ففي العام 2008 والعام 2009 حققت الشركة أرباحاً جيدة، وبيّن التقرير الإحصائي الصادر عن مديرية التخطيط في الشركة العامة لمرفأ اللاذقية الحقيقة التالية: حققت الشركة في العام الحالي زيادة 1 مليون طن في الإنتاجية و721 مليون ليرة سورية في الإيرادات عن العام الماضي، وتشير حصيلة الأرقام المنفذة منذ مطلع العام الجاري وحتى نهاية شهر آب الماضي إلى أداء متميز حققه المرفأ انعكس زيادةً في أغلب نشاطاته الإنتاجية والملاحية. وأشار التقرير إلى الزيادة الحاصلة منذ بداية العام ولغاية 31/8/2009 بالمقارنة مع العام الماضي، حيث زادت الإنتاجية (البضائع الواردة والصادرة) من 5,265 ملايين طن إلى 6,215 ملايين طن، أي بزيادة مليون طن، وزادت الإيرادات المحققة من 1,656 مليار ليرة سورية إلى 2,377 مليار ليرة سورية، أي بزيادة 721 مليون ليرة سورية. كما زاد عدد الحاويات من 385 ألف حاوية إلى 422 ألف حاوية، وزاد عدد البواخر التي أمت المرفأ من 884 باخرة إلى 1082 باخرة.
استغلال المراسيم بعكس ما يقصد منها
بعد صدور مرسوم تشجيع الاستثمار رقم /8/ لعام 2007 الذي سمح باستثمار الأموال الأجنبية في القطاعات الصناعية والخدمية، وسمح بأن تستفيد المشاريع من الإعفاءات والمزايا والتسهيلات القانونية والجمركية، فقد فسرت الحكومة هذا المرسوم تفسيراً يخدم مصلحتها في سياستها الليبرالية الرامية إلى خصخصة منشآت القطاع العام، وبدلاً من أن تشجع إقامة مشاريع استثمارية جديدة للرأسمال الأجنبي قدمت له على طبق من ذهب الكثير من المنشآت الاقتصادية الهامة ليستثمر أمواله فيها.
وكان مرفأ اللاذقية هو الضحية الأكبر وذات القيمة الاقتصادية والأمنية الأكثر أهمية حيث سطت عليه يد الغرباء وحصلت شركات أجنبية ثلاث على عقد مشروع تأهيل وتشغيل وإدارة محطة حاويات مرفأ اللاذقية مقابل المشاركة بالإيرادات وهذه الشركات هي شركة سورية القابضة، وشركة CMA – CGM الفرنسية، وشركة تيرمينال لينك TERMINAL LINK الفرنسية، وكان العقد بعنوان إدارة وتشغيل محطة الحاويات في مرفأ اللاذقية للوصول إلى أعلى إنتاجية ممكنة من الحاويات وذلك خلال تحسين عمليات تستيف الحاويات بشكل يزيد القدرة الاستيعابية للمحطة وإعادة تأهيل المعدات والآليات الحالية وشراء أخرى جديدة ذات إنتاجية عالية مما سيسهم بزيادة عمليات التفريغ وتخفيض الازدحام.
ما الذي ترجوه الحكومة من طرح المنشآت للاستثمار؟
أكد المدير العام لشركة مرفأ اللاذقية سليمان بالوش، أن العقد الموقع مع الشركة الفائزة بأفضل عرض لتشغيل المحطة هو عقد إدارة وتشغيل محطة حاويات في مرفأ اللاذقية من قبل شركة عالمية متخصصة، مقابل المشاركة بالإيرادات، وأنه ليس عقد استثمار أو امتياز، إذ ستبقى شركة المرفأ هي الجهة المخولة بالإشراف على عمل الشركة المشغِّلة، وتقوم بفرض التعرفة وتحصيل الإيرادات الناتجة عن عمل المحطة، وبالتالي فإن هذا الخيار هو أفضل الحلول التي تضمن السيادة والملكية من جهة، والارتقاء بمستوى الخدمات من جهة ثانية، ولتبيان شروط خيار إدارة وتشغيل محطة الحاويات، قال المدير العام إن أهم المزايا المطلوبة من العقد هي:
1 - رفع كفاءة محطة الحاويات وزيادة إنتاجيتها إلى 800 ألف حاوية كمرحلة أولى، وإلى 1 مليون حاوية بعد تأهيل ساحة سادكوب وضمها إلى محطة الحاويات.
2 - زيادة سرعة تداول الحاويات وتخفيض زمن بقائها في المرفأ.
3 - تخفيض زمن انتظار السفن ومعدل دورانها إلى الحدود المنافسة للمرافئ العالمية المتطورة.
4 - رفع كفاءة ومهارة العمالة الوطنية في المحطة، وتوفير الاحتراف بالمعايير العالمية، والحفاظ على العدد الموجود من العمالة، وعدم الاستغناء عن أي منها، وذلك بتشغيل 400 عامل في المحطة (من عمال المرفأ الحاليين)، فضلاً عن إتاحة فرصة العمل للمواطنين السوريين، حيث سيشكلون 90% من مجمل العمالة ضمن المحطة.
5 - رفع مستوى ونوعية الخدمات للمتعاملين مع المرفأ.
6 - تعزيز الثقة والأمان في التشغيل.
7 - استخدام موجودات المرفأ للاستفادة القصوى منها واستغلالها تجارياً.
8 - ضمان قيام المشغل بعمليات إعادة التأهيل والصيانة.
9 - تأمين وتعزيز قدرة المرفأ على الجذب والمنافسة.
ثغرات قانونية كبيرة لمصلحة المستثمر
في دراسة قانونية أجريت لمسودة عقد إدارة الحاويات في مرفأ اللاذقية، ظهر العديد من نقاط الضعف، إذ لم يتم إعداد أية دراسة للجدوى الاقتصادية (تكنولوجية أو مالية). وهناك بند يقول: «تتعهد الجمهورية العربية السورية وكذلك شركة المرفأ بعدم المطالبة بحقها في تطبيق الحصانة السيادية، وبالتالي التنازل بشكل نهائي عن المطالبة بوضعها الحَصاني السيادي، فيما يخص الإجراءات الداعمة لتطبيق أي قرار، ولاسيما الحصانة من الملاحقة والتحقيق والاستجواب، وكذلك حصانة الخضوع لأية إجراءات وقوانين وأصول محاكمات، وعلى مختلف درجات المحاكم، والحصانة من تنفيذ وتطبيق أية أحكام أو قرارات صدرت ضد ممتلكات الدولة ذات الطابع التجاري»، ويشير المحامي الذي أجرى هذه الدراسة إلى أن هذا التعهد مستغرب وليس له أي مبرر، وهو سابقة بالغة الخطورة، و لم يُعرف بأن الدول تتقدم بمثل هذا التعهد. وكذلك تشير الدراسة إلى بند يتيح للشركة المستثمرة التنصل من التزامها، عندما نص العقد على أن التأخير أو الامتناع عن تطبيق هذا الاتفاق لا يُعد خرقاً له، إن كان بفعل الحروب المعلنة وغير المعلنة، أو الحصار والمقاطعة أو أعمال الشغب والأعمال الإرهابية والأنشطة السياسية. كما أشارت الدراسة إلى الطريقة الغريبة في حل النزاعات بحسب نص العقد، إذ أن الطريقة الحصرية هي عملية التحكيم وفق قواعد غرفة التجارة العالمية، وتكون الإجراءات باللغة البرتغالية، وتعقد اجتماعات التحكيم في باريس، فلماذا كل هذا التعقيد؟! ولماذا لا يكون التحكيم محلياً، وفي حال الفشل يكون اللجوء إلى المحكمة الإدارية لحل النزاعات؟!!
التساؤلات القانونية كثيرة، فالعقد بحسب نقيب عمال النقل البحري غامض وليس واضحاً، وفيه بنود مطاطة يستطيع أي طرف تفسيرها لمصلحته الخاصة، وكل بنود العقد تثير الكثير من التحفظات!!
ومصير العمال مازال مجهولاً أيضاً!
باشرت الشركات الأجنبية بإدارة محطة الحاويات، وكان من شروط العقد أن الشركات المستثمِرة للمحطة ستعيّن لديها فقط 400 عاملٍ من عمال شركة مرفأ اللاذقية، ولكن برواتب جديدة وتعيينات جديدة، قد لا تشمل المزايا التأمينية والضمان الصحي والكثير من المكتسبات والمزايا التي استفاد منها العمال على مدى عقود طويلة، وقد تأرجحت الآراء والأقاويل حول هذا الموضوع، وللوقوف على حقيقة الأمر كان لنا لقاء مع النقابي إبراهيم اللوزة الذي أكد لنا ما يلي: «نعم لقد تخوف العمال كثيراً من هذا الأمر، ولكن وزير النقل وعد شفهياً بالحفاظ على كافة المستحقات التأمينية والضمان الصحي والكتلة الأجرية للعمال، وقد يبقى العمال مؤقتاً تابعين لشركة مرفأ اللاذقية، وتتعهد الشركات المستثمرة بتحويل الكتلة الأجرية لهم محفوظة كما في السابق. إن استثمار محطة الحاويات من قبل شركات أجنبية قد أصبح أمراً واقعاً، ولا طائل لنا في تغيير ذلك، بعد أن أعلنّا مراراً وتكراراً اعتراضنا الواضح ورفضنا القاطع لخطوات الخصخصة وطرح منشآت القطاع العام للاستثمار، ولكن دون جدوى، أما الآن والواقع هكذا فعلينا على الأقل النضال للحفاظ على حقوق العمال ومكتسباتهم، وسنتابع قرار السيد وزير النقل لتنفيذ ذلك».
آراء العمال بين الخوف والترقب
كان للعمال الذين التقتهم «قاسيون» آراء متناقضة، بين الخوف من المجهول والأمل بعدم خسارة مكتسباتهم وحقوقهم، وأكدوا لنا أنه حتى الآن ما من تغيير طرأ على رواتبهم، ولكن هذه فترة اختبار وتجربة لمدة ثلاثة أشهر تدرس خلالها الشركات المستثمرة وإدارة شركة المرفأ ما ستؤول إليه الأمور من حيث الرواتب والتأمينات والضمان وساعات العمل وأماكنه.
وهنا تؤكد «قاسيون» على ضرورة الحفاظ على الحد الأدنى المتبقي بعد التفريط بالمرفأ وهيبته وسيادته، وهو الحقوق القانونية والمادية والصحية للعمال، فهذا خط أحمر لا يجوز المساس أو التفريط به.
وآراء نقابية جريئة
كان لـ«قاسيون» أيضاً لقاء مع رئيس اتحاد عمال محافظة اللاذقية علي داوود الذي أكد على الموقف الواضح والصريح من خطوات الخصخصة والاستثمار التي تنتهجها الحكومة فقال: «منذ بداية طرح الموضوع في ملامحه الأولى، كان لنا موقف واضح، ووقفنا وقفة جدية ضد كل نهج الخصخصة وهناك مذكرات رسمية رفعها الاتحاد إلى فرع الحزب ورئاسة مجلس الوزراء ووزارة النقل تؤكد رفضنا واعتراضنا على طرح المرفأ للاستثمار، وأكدنا مراراً وتكراراً أن لدينا القدرات والكفاءات الوطنية القادرة على إعادة تأهيل المرفأ وتطويره، لو أعطيت الصلاحيات اللازمة والدعم المادي الكافي. ولكن تابعت الحكومة في هذا الموضوع والآن استثمار محطة الحاويات في مرفأ اللاذقية من قبل شركات أجنبية أصبح أمراً واقعاً، ومن هنا سننتقل إلى الوقفة التالية لندافع عن حقوق العمال ومكتسباتهم المادية والقانونية والصحية والتأمينية، أما قرار وزير النقل ببقاء الـ400 عامل الذين ستستخدمهم الشركات المستثمرة تحت إدارة شركة المرفأ، فهو مؤقت ولفترة اختبارية وتجريبية لمدة ثلاثة أشهر، ريثما يتم البت بأمر مستحقاتهم ورواتبهم وتأميناتهم، ولا أظن أن الشركة المستثمِرة ستنكر حقهم بالتأمين الصحي أو التقاعدي، وهذا ما سنسعى إلى تثبيته والحفاظ عليه بالتنسيق مع الجهات المختصة».
اجتماع لدراسة وضع العاملين في شركة المرفأ
وبالفعل عقد يوم الاثنين 12/10 اجتماع نوعي لدراسة وضع عمال الساحات في الشركة العامة لمرفأ اللاذقية وما يمكن تقديمه من اقتراحات تضمن تطوير العمل وتصون حقوق العاملين والمصلحة العامة. وعرض رئيس اتحاد عمال المحافظة جملة من القضايا العمالية والنقابية والأسس الممكن اعتمادها لضمان حقوق العاملين المنقولين للعمل داخل محطة الحاويات. وتمت الإشارة خلال الاجتماع لظروف عمل المحطة والشروط التي تم الالتزام بها لما يضمن حقوق العاملين. وبيّن المدير الإداري في المرفأ ماهر جيرة الإجراءات التي اتخذتها الشركة لضمان تعويضاتهم وأجورهم، وعرض رئيس نقابة النقل البحري إبراهيم إبراهيم جملة من القضايا والملاحظات التي اعترض عليها عمال المرفأ وأكد على ضرورة التزام المحطة بكافة الحقوق التي كانت تمنحها شركة المرفأ لعاملين.
ماذا وراء الأكمة؟!
إذا كانت هذه هي الشروط والمكاسب المتوخاة من عقد إدارة وتشغيل محطة الحاويات في مرفأ اللاذقية، في هذا الجو المضطرب والقرارات الضبابية، فإنها لا تستحق أن تتعرض خزينة الدولة للخسارة وأمن الوطن للمخاطرة من أجل الحصول عليها، فإن لدينا، حقيقةً، من القدرات والكفاءات الوطنية القادرة على تحقيق هذه الإنجازات فيما لو أعطيت الصلاحيات اللازمة والدعم المادي الكافي، إلا أن حكومتنا يروق لها أن ترمي المكاسب سهلة في أحضان المستثمرين الأجانب، فما هو القصد من ذلك؟!! هل مَن خطط وقرر وسعى له مصلحة مشتركة مع هؤلاء المستثمرين؟ وله فائدة شخصية على حساب خزينة الدولة؟!! لقد أثبتت التجارب العالمية سوء النتائج والفشل الذي وصلت إليه مثيلات سياساتهم في الخصخصة، فإلى متى سيمضون في هذا الطريق الذي لن ينتج عنه إلا الدمار والخراب للوطن واقتصاده وأمنه؟!!