أين عاصمة الثقافة الإسلامية من أحياء قوس الفقر؟
أحياء الفردوس، كرم الدعدع، الصالحين، باب النيرب في حلب أمثلة حية عن كارثة إنسانية معلنة وقنبلة اجتماعية موقوتة..
حال الوضع في تلك الأحياء يشبه قصة ذلك الشاب الذي يعرف جميع أفراد القرية بمخطط قتله ولا يحاول أحد الحؤول دون قتله كما كتب ذات يوم ماركيز في قصة «حادثة موت معلن» وأحياء حلب المصنفة كأحياء مخالفات وخصوصاً الجنوبية منها كأحياء الفردوس وكروم الدعدع وحومد والقادرية والصالحين وغيرها من الأحياء والحارات التي لا يستطيع أن يحصيها سوى تجار أبنية البلوك وحلفائهم في البلدية، الكارثة الإنسانية التي تنتظر هزة أرضية خفيفة جداً أو جشع زائد عند تجار أبراج البلوك، فعندما إستقالت الدولة من مهامها الاجتماعية وقصرت في تنظيم الأحياء الجديدة ذات الطلب الشعبي وبسبب عوامل اجتماعية واقتصادية وسكانية مختلفة كانت ذروتها في أيام الفوضى الأمنية في سنوات الثمانينات التي غُض الطرف فيها على أكبر مشروع بناء مخالف في القطر جعلت حلب المدينة محاطة في أغلب جوانبها بالسكن العشوائي الذي كان من جهة أخرى أهم منابع الفساد الإداري والتنظيمي في بلدية حلب وحتى الآن، فإذا كانت العاصمة دمشق وعلى ما هي عليه من العناية والرعاية من الحكومة ومع ذلك تنمو الأبنية المُخالفة، فما بالكم بمدينة بعيدة كحلب اعتبرت مغارة علاء الدين لمسؤولي المحافظة وفرصة لا تُعوض للإثراء السريع وليكن من بعدهم الطوفان.
ففي غمرة احتفالات جماهير حلب باختيار مدينتهم عاصمة للثقافة الإسلامية ورغبة من مجلس المدينة في إدخال البهجة والحبور لأهالي المدينة الذين وقفوا مشدوهين أمام تلك الكرة المعدنية المنتصبة في قلب ساحة سعد الله الجابري (وهي إحدى تجليات العبقرية لمحافظ حلب أو أحد أفراد حاشيته) فقد رُخص للعديد من أكشاك الفلافل والأطعمة المختلفة لتحتل المساحة الباقية من تلك الساحة وهي بالطبع تعبر عن تراث حلب أم المحاشي والكبب، وتعبر عن مستوى الوعي بمثل هذه المناسبة تأتي مرة واحدة فقط!!!
عفواً نسينا أن المحافظة ورغبة منها في إبراز الجانب الحضاري للمدينة فقد استبدلت عربات القمامة ذات العجلتين التي عجزت المحافظة عن إيجاد البديل لها وهي المستخدمة منذ الاحتلال الفرنسي لبلادنا، بعربات أخرى وطبعاً فقط في مركز المدينة.
في أمكنة أخرى وبتكبير زووم الرؤية لمدينة سيف الدولة وأبي فراس الحمداني والمتنبي وإبراهيم هنانو وعمر أبو ريشة وغيرهم (رحمة الله عليهم وعلى أيامهم)، تتوضح حلب المنهكة بكل ما يخطر بالبال من المخالفات والفساد المستشري في كل دوائر المحافظة، أحياء المخالفات أو ما يمكن أن نسميه بحلب أحياء القرميد أو البلوك التي لا أحد يكترث بها، وقد تركت بلا تخديم ولا تنظيم طبوغرافي وقد صار لتلك الأحياء من العمر ما يقارب ثلاثين عاماً أو أكثر، هذه الأحياء أحد الأمثلة الصارخة عن الفساد والتواطؤ المعلن والمستتر بين بلدية حلب وعصابات البناء العشوائي الذين يديرون أحياء بكاملها وتحوي في ظل انكماش السلطة الأمنية هناك عل كل ما يخطر بالبال من الموبقات الاجتماعية وخصوصاً تجارة المخدرات وتجارة الدخان المهرب، ولم نجد خيراً من التعريف الذي أورده المرحوم ممدوح عدوان في كتابه حيونة الإنسان الشبيح أو المتسلبط: «المتنمر أو المتسلبط وهو شخص ميال إلى فرض إرهابه الشخصي على الآخرين،..هذا هو المتنمر الإجتماعي الذي يروع عالم قاع المدينة شخص يشبه القبضايات ولكنه بلا أخلاق ولا نخوة، يستخدم لمهمات عند العصابات بينها الضرب في الليل وحماية أمكنة العمل غير الشرعي والمتنمر خارج عن القانون ويعمل بعيداً عن أعين السلطة والدولة أو أمام الجزء من السلطة الذي يتعاون معه بالرشوة أو بأي دافع آخر»، وهذا هو حال عصابات البناء العشوائي في أحياء المخالفات وهنا لن نذيع سراً إذا سردنا سيناريو البناء المخالف، حيث أنهم يتوجهون إلى أصحاب الأراضي أو الدور العربية وإقناعهم بالبيع بالحسنى فإذا تم الرفض فيتم تسليط الشبيحة أو البلطجية على أفراد الأسرة وخصوصاً على النساء وبعد كم علقة وكم ضربة سكين، يقتنع أصحاب البيت بالبيع كون الحياة أصبحت مستحيلة ولا مُجير من أولئك المجرمين سوى الهرب، ولا داعي هنا للاستنجاد بالشرطة التي تُطالب المُشتكي بجلب المُعتدي أو بأحسن الأحوال عمل ضبط لا يُغني ولا يُسمن، هذا إذا افترضنا حس النية.
فعلى أساس دار من طبقة واحدة بنيت منذ عشرات السنين يقوم بناء برجي من أربع إلى خمس طبقات مبني من البلوك الرفيع عرض 10 سم فقط ولتدعيم البناء يقوم تجار البناء ببناء عدد من الأعمدة الإسمنتية بأساس متر أو أقل وبأبعاد 30 × 30 سم ولإخفاء الواجهة القرميدية ولإغراء الناس تُلبس الواجهة الرئيسية بصفائح حجرية رقيقة مقصوصة خصيصاً لذلك، لا داعي هنا للحديث عن جودة البناء وكمية الحديد ونوعيته وكذلك عن كمية الأسمنت وقدرة تحمل جدران البلوك، وبغياب أي شكل من أشكال الرقابة وكون تلك المناطق غير منظمة فإن الاستيلاء على رصيف الشارع وضمه للبناء وكذلك مد شرفة الطابق الأول على الشارع، هو من بديهيات البناء في تلك الأحياء، وكما يحدث في الأفلام الهندية تأتي ضابطة البناء في الطور الأخير من البناء فتقوم بتكسير بعض أدوار البناء ومصادرة بعض أكياس الأسمنت وقد شاهدت بنفسي حادثتي هدم وهمي، الصور المرفقة توضح تلك العملية، ولا من معترض كون تلك الحملة مُتفق عليها مع أصحاب البناء الذين يسارعون إلى إسكان بعض العائلات في كل طبقة ينتهون منها، وهنا الحديث عن شهر واحد فقط أو أسبوع واحد لكل طابق بناء ولتذهب إلى الجحيم كل متطلبات السلامة، والقول الشائع هنا إذا تشقق البناء فسوف أُعوض من الدولة ببيت أحسن منه، مافيا البناء هذه ما أن تنتهي من بناء إلا وتباشر بغيره المعايير السابقة نفسهاغير آبهين بسلامة الناس أو بالخدمات التي يجب توفيرها للسكان، فتنتشر الأوساخ والوحول في الشوارع أو الزواريب الملتوية، سكان تلك المناطق مغلوبون على أمرهم، إن تزايد الطلب على السكن يجد لأي عرض سكني مهما كان سوقاً له وتتراوح قيمة بيت طابقي لا أوراق نظامية له مساحته 40 – 60 مترا مربعاً بين 450 إلى 650 ألفاً يكلف بناؤه في أحسن الأحوال 100 ألف ليرة سورية فقط.
حلب مدينة غنية جداً، ولديها من المؤهلات لكي تعيد أمجادها السابقة يوم كانت تستقبل كل يوم في أسواقها حمولة 20 ألف جمل في اليوم، وكانت عاصمة للعلم والتنوير، ويكفيها أنها أنجبت أكبر مناهضي الاستبداد في القرن التاسع عشر وهو عبد الرحمن الكواكبي، اليوم حلب تفتقد لهويتها ويُراد إلصاق صفة واحدة فقط لها، حلب ليست فقط ساحاتها الجميلة ومناطق سكن الأكابر، بل هي جميع أحيائها ومناطقها وخصوصاً من يبني وينتج ويشقى ولا يعرف أين ينام.