الهندسة الديمغرافية: تهويل استثماري
تعتبر موجات النزوح واللجوء، هرباً من الحرب وبحثاً عن الأمان والاستقرار المؤقت، داخلاً وخارجاً، من أكبر مظاهر الكارثة الإنسانية التي تعرض لها السوريون خلال سني الحرب والأزمة، وأكثرها جلاءً، وما استتبع ذلك من أوجه استثمار صغير وكبير، آني ومستقبلي، على هامشها وبعمقها.
الاستثمار بالنزوح والتشرد
تعددت مظاهر الاستثمار في موجات النزوح، ولعل إحدى جوانبه هو ذاك الذي يعمل على المستقبل عبر أزمات الحاضر وتشابكها وتداعياتها حيث يعمد البعض إلى زيادة آثار جرعات الكارثة عبر بث دعايات التحريض والتهويل والتخويف من قادم الأيام والمستقبل، والتشكيك بمآل المهجرين وبمصيرهم، وأبرز ما يعملون عليه هو بث دعايات الشك والريبة حول عودة الأهالي إلى بلداتهم ومدنهم وقراهم التي نزحوا منها هرباً من ويلات الحرب، تارة عبر النموذج التحريضي (الديني والطائفي والمذهبي والقومي) وتارة عبر ادعاءات التغيير الديمغرافي والهندسة السكانية، وتارة عبر التهويل عن مصير الملكيات بظل فوضى الحرب والأزمة والدمار الذي لحق بالكثير من الملكيات ووثائقها ومستنداتها، وذلك نتيجة تعرض بعض الدوائر العقارية للنهب والحرق والدمار وخروجها عن الخدمة، حيث أصبح من الصعب الحصول على بدل سندات التمليك التي فقدها أصحابها بنتيجة ذلك، وبالتالي من الصعوبة التحقق من الملكيات العقارية؟!
دعايات التغيير الديمغرافي
المأساة الأكبر بالنسبة لهؤلاء تتمثل بما يصل أسماعهم من عدم تمكنهم من العودة، والتي ترافقت مع الكثير من الإجراءات الرسمية وغير الرسمية المعيقة في العودة والمانعة لها، لتؤكد لدى البعض تلك الشكوك والتخوفات، ولتجعل مستقبلهم بمهب الريح.
هذه الدعايات التهويلية ليست عبثية بواقع الحال، كما أن واقع استمرار الدمار والتهجير القسري لم يعد كذلك أيضاً، بظل تشعب خارطة المستثمرين بالحرب والأزمة السورية، وبالكارثة الإنسانية العامة التي ألمت بالسوريين.
يقف خلف ذلك الكثير من القوى الفاعلة والمؤثرة على مستوى الصراع والحرب القائمة، بآليات وشعارات مختلفة آنياً ولحظياً من التعبئة الطائفية والمذهبية والقومية من أجل تسعير الحرب واستمرارها عبر خلط الأوراق وإعادة خلطها، والتي يتم الاستفادة منها عبر هذه القوى، محلياً وإقليمياً ودولياً، أو عبر استثمارها المستقبلي المتمثل بإعادة الإعمار والقوى الرأسمالية الكبيرة التي تتحين الفرصة للاستفادة منه، والتي تعمل منذ الآن على تجيير جزء من ملكيات السوريين لحسابها، مستفيدة من واقع التيئيس المرافق لحملات التهويل والترهيب عبر شراء بعض الملكيات بأسعار مخفضة جداً، عبر شبكة من العملاء الصغار.
تقاطع مصالح
ما من شك بأن بعض هذه الدعوات التشكيكية والتهويلية تتقاطع مع مصالح القوى الفاعلة والمؤثرة على الحرب والأزمة واستمرارها، بنسب ودرجات متفاوتة، فتنبري الأقلام وتخصص ساعات من البث الإعلامي لها، وذلك كله بغاية خلق حالة من الهلع الإضافي على المستقبل والتشكيك فيه، ولعل الترويج لعبارة «سورية المفيدة» أحد هذه الأشكال وغيرها الكثير من الدعايات التي تترافق مع كل خروج لبعض المسلحين من منطقة ما أو مدينة أو حي.
ولا يغيب عن بالنا بأن بعض القوى المتطرفة فكراً وممارسة هي مع تلك الدعايات، وبرغبتها أن يتم ذاك التغيير الديمغرافي الذي ينسجم مع تطرفها وشعاراتها، خاصة وأنها تعمل على ذلك بممارساتها الإرهابية.
إحصاءات وأرقام
الإحصاءات المتداولة عن أعداد المهجرين تقول بأن هناك بحدود 6 ملايين نزحوا داخلاً إلى المناطق الأكثر أمنا، وبحدود 4 ملايين نزحوا خارجاً، باتجاه دول الجوار.
غالبية هؤلاء ما زالوا متمسكين بالعودة والاستقرار بمناطقهم وبلداتهم وبيوتهم التي اضطروا للنزوح منها قسراً، بانتظار أن تضع الحرب أوزارها، كي يستعيدوا نشاطهم الحياتي والاجتماعي والاقتصادي الذي عاشوا عليه وألفوه.
المشاكل والصعوبات التي تواجه هؤلاء بالعودة تتمثل بالكثير من الأشياء المتشابكة والمترابطة، اعتباراً من الواقع العسكري والأمني في مناطقهم، مروراً بحالة الدمار التي أتت على بيوتهم وما حل بممتلكاتهم من سرقة وتعفيش، وليس آخراً بالقيود المفروضة عليهم منعاً للعودة في العديد من البلدات والقرى والمدن والأحياء.
وبحسب الإحصاءات التقديرية فإن 40% من السكان يقيمون في مناطق السكن العشوائي، موزعين على 120 منطقة تقريباً على مستوى البلاد، وهذه المناطق كانت الأوسع على مستوى الدمار والتهجير والنزوح خلال سني الحرب، بين دمار جزئي أو كلي، كما أن بعض المناطق تصنف بأنها خارجة عن الخدمة أمنياً بغض النظر عما لحق بها من دمار كلي أو جزئي.
الاستثمار بإعادة الإعمار
إعادة الإعمار تعتبر الفرصة الأكبر للمستثمرين الكبار مستقبلاً، وملكية 10 مليون سوري، بين نازح ولاجئ ومشرد، أي بحدود 50% من السوريين في مرمى إعادة الإعمار لاستثمارها، وهي فرصة ثمينة وكبيرة للكثير من المستثمرين الكبار، محلياً ودولياً، كما هي بآن محرضاً على استمرار الحرب والصراع، بغية تكبير وتوسيع قاعدة هذا الاستثمار، وبالتالي فإن هؤلاء بأذرعهم المحلية والإقليمية والدولية سيعملون جاهدين على توسيع رقعة الحرب، كما سيعملون على زيادة التفريغ السكاني تحت أي مسمى وذريعة، بما في ذلك الاستفادة من منع عودة هؤلاء إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم.
قوانين مشجعة
القوانين التي تم صياغتها من أجل إعادة الإعمار فسحت المجال عملياً أمام الاستثمارات الخاصة لتعمل عملها وتمهد الأرضية من أجل الاستفادة القصوى من عائدية تلك الاستثمارات منذ الآن، ومصالح هؤلاء تتقاطع عملياً مع دعايات التهويل والتعبئة السياسية والتحريضية القائمة بين أطراف الصراع قاطبة، إن لم تكن فاعلة فيها ومحرضة بدورها عليها، من أجل وضع اليد على أكبر قدر من مواقع الاستثمار اللاحق بحكم القوانين الموضوعة وصكوك الملكية المنتزعة تحت ضغط الخشية والخوف من المواطنين.
فهؤلاء الذين يتحدثون ويروجون للتغير الديمغرافي والهندسة السكانية، هم أنفسهم الذين يهندسون استثماراتهم القادمة على مستوى إعادة الإعمار، عبر التهويل والتخويف من أجل الشراء بأسعار منخفضة وفرض وجودهم الاستثماري بفعل القانون الذي يعرفون تفاصيله وأساليب العمل به، أكثر من المواطنين المغرر بهم والمخدوعين والمضطرين تحت ضغط الحاجة.
الملكيات مصانة بالدستور وبالقانون
إن حقوق الملكية مصانة بالقانون والدستور، كما أن تلك الحقوق لها العديد من طرق الإثبات، التي تبدأ بالصكوك المصدقة والمسجلة بالصحائف العقارية بشكل رسمي، حتى وإن فقدت تلك الصكوك، أو بالصكوك المثبتة عبر كتاب العدل ولو لم تسجل بالصحائف العقارية، أو بطرق الإثبات عبر المحاكم المختصة بوجود أطراف العلاقة، وحتى بشهادة الشهود لوحدها عبر الجهات القضائية العقارية المختصة بفض النزاعات، ويبقى القضاء هو الضمانة الرئيسية للأفراد في حالة الاعتداءعلى ملكيتهم.
النزاع على الملكيات
ما يشاع عن حقوق الملكية في المناطق المدمرة المنظمة عقارياً يعتبر من باب التهويل فتلك المناطق يمكن إثبات الملكية فيها، وإن تعقدت إجراءاتها، باعتبار أن هذه الملكيات لها العديد من السجلات والوثائق، وإن فقد بعضها فإن طرق إثبات الملكية فيها ميسرة، كما أن الكثير من الملكيات بالأراضي الزراعية كذلك الأمر لها الكثير من الوثائق الداعمة للملكية فيها، وبالتالي فإن ما يشاع عن فوضى الملكيات وضياعها بالمدن أو بالقرى والبلدات ما هو إلا دعايات سياسية أو استثمارية بجوهرها وغاياتها.
المشكلة الحقيقية هي بطرق إثبات الملكية بالعشوائيات المحيطة بالمدن، أو بداخلها، وغالبية قاطني هذه العشوائيات هم من المواطنين المهمشين اجتماعياً واقتصادياً، والمفقرين بواقع السياسات الاقتصادية الليبرالية عبر عقود منذ ما قبل الحرب والأزمة.
مشكلة هؤلاء لم تقتصر على نزوحهم وتهجيرهم القسري، بل تعدتها إلى قوانين جائرة بحقهم، حيث ومع الأسف حتى القوانين التي تم وضعها خلال فترة الحرب والأزمة انتزعت حق هؤلاء بشكل مطلق، بما في ذلك حقهم بالأنقاض بحال دخلت مناطقهم حيز التنظيم ومشاريع الإسكان فيها.
بالتالي فإن دعايات التغيير الديمغرافي ما هي إلا شكل تزييفي لحقيقة نزع ملكية هؤلاء عبر القوانين نفسها لمصلحة المستثمرين القادمين، عبر المخططات التنظيمية والعمرانية التي تقرها الوحدات الإدارية والمحافظة المعنية، وهؤلاء تحديداً من يجب أن تحمى حقوقهم وتصان، عبر إيجاد الصيغ القانونية لصيانة حقوقهم وملكياتهم، سواء كانت هذه الملكيات قد دمرت بفعل الحرب، أو ستزال بموجب التنظيم.
مهام وطنية
إن المطلوب أن تستعيد الدولة دورها على مستوى الإعمار والإسكان ومنذ الآن، عبر إعادة التأهيل اللازمة للمناطق وللبيوت والمساكن المدمرة جزئياً، وتسهيل إجراءات عودة الأهالي إليها ولو بوضعها الراهن، بعيداً عن كل ادعاءات الواقع الأمني والعسكري وغيرها من أساليب المنع التي تصب بمصلحة مستغلي الأزمة والكارثة على حساب البشر ومآسيهم، مع تقديم التسهيلات والمساعدات اللازمة لذلك كلها، وأن تستعيد الدولة دورها أيضاً على مستوى المناطق والمساكن التي أصابها دمار كلي عبر قوانين تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الأهالي وصيانة ملكياتهم أولاً، بعيداً عن جشع المستثمرين.
مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية التركيز على إعادة تكوين الوثائق والسجلات العقارية المتضررة بنتيجة الحرب والأزمة، بالطرق والأساليب المناسبة، سواء كانت إدارية أو قضائية، مع الاستثمار الأمثل لعامل الزمن.
فمن دون تلك الإجراءات فإن النزاعات على الملكية ستزداد في المستقبل حيث سيصبح جزء من الصراع عبارة عن حرب وثائق ومحاكم وقضاء، مع ما تحمله تلك النزاعات والصراعات من تداعيات سيكون لها تأثير سلبي على السلم الأهلي والأمن المجتمعي.