معهد التخطيط يواجه هيئة التخطيط بأسئلة محرجة!

بين عامي 1966 و2007 لم تختلف صورة معهد التخطيط والتنمية الاقتصادية والاجتماعية كثيرا، إلا اللهم بتغيير شكلي اقتصر على نقل البناء من المزة إلى التل خارج دمشق، إلى بناء يحتوي على مدرج وحيد، هو عبارة عن قبو..

خلال هذه السنوات بقي المعهد مجهولاً إلى ان سلط الأضواء عليه تصريح رئيس هيئة تخطيط الدولة الدكتور تيسير الرداوي في 352007 لجريدة تشرين فيما دعاه «بتحويله لمعهد للتفكير»!

التصريح الأخير تكفل بتفجير انتقادات وتساؤلات من كوادر المعهد عما ينتظرهم على مفترق طريق جذري تتولى الهيئة قيادته..

والأمر لا يقتصرعلى إغلاق المعهد أو تحويله لمركز تدريبي، نظراً لأهمية دوره كمركز وحيد للتخطيط والدراسات البحثية التطبيقية في سورية، في الوقت الذي تتكاثر فيه معاهد الإدارة العامة.

لذلك يعد تطوير المعهد قضية شائكة وعاجلة تحمل رؤيتين متناقضتين.

الأولى للهيئة التي تدعي تطوير المعهد، والثانية لأساتذته الذين وجدوا في رؤية الهيئة دعوة مبطنة لإلغاء المعهد والقضاء على أي شكل من أشكال التخطيط في سورية.

رغم كل تطمينات الهيئة بأن المعهد هو العقل المدبر لها، ما يفترض أن يكون وفق مرسوم إحداث المعهد في 1966.. 

شكراً للإهانة العلنية!

الرداوي تحدث عن «إعداد الهيئة لمرسوم لتبديل وظائف المعهد بشكل جذري لتعديل عمله جذرياً ليكون معهداً للتفكير».

طلاب المعهد استقبلوا التصريح بسؤال عن «سبب عدم تحديد ماهية هذا التفكيرمن الهيئة، فهل هو التفكير بالأكل والشرب فقط، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ان الطفل ابن الخمس سنوات يفكر»!

ونقطة الانطلاق في ذلك المرسوم الداعي لتبديل وظائف المعهد جذرياً، ومن ضمنها إلغاء شهادة الدبلوم بدل رفعها إلى شهادة ماجستير أو دكتوراة على اعتبار أن المعهد لا يقبل سوى خريجي الجامعات.

المفارقة تكمن في أن المعهد يطالب من عام 1986 برفع درجة شهادته (الدبلوم) التي منحها قبل الجامعات السورية من عام 1966، وتجاوزتها الجامعات بإلغاء شهادة الدبلوم وبقي المعهد يمنحها دون تعديل أو رفع للشهادة، والآن يجري العمل كما تؤكد العديد من المصادر على إلغائها.

يحصل ذلك برأي الأساتذة تحت لافتة خلابة للتغيير لكنها محملة بشتيمة تهدف بالنهاية لتحويل المعهد لمركز تدريبي بلا شهادة علمية أكاديمية، وبمعنى ما قتل المعهد بعد 41 عاماً من تخفيض دوره للحد الأدنى!

د.صموئيل عبود (تخطيط اقليمي) يرى في مقولة معهد للتفكير شتيمة وإهانة علنية يستبقها بالشكر للهيئة التي تريد جعل المعهد «يفكر»، مؤكداً على «ضرورة احترام ماتفكر فيه كوادر المعهد بداية كتنفيذ لأطروحات الهيئة والحكومة من التعددية والتشاركية».

كبسة على غفلة!

فالهيئة لم تزُر المعهد ولم تطلع على واقعه أو تكلف نفسها بزيارة أساتذته من 6 أشهر،

بينما بينت بعض الجهات أن الرداوي «زار المعهد في يوم الانتخابات النيابية الساعة الواحدة والنصف ظهراً وبقي لخمس دقائق لم يلتق فيها أحد»، الأمر الذي يحدو المصادر إياها لتصحيح مصطلح «زيارة إلى كبسة»!.

وفي هذا يتركز سؤال المعهد للهيئة «هل تعلم الهيئة ماذا قدم المعهد خلال 41 عاماً من إنشائه»؟

و«لماذا إلغاء الآخر بعبارات لامعة تمرر تحت يافطة التطوير، وهل يتعارض رفع درجة الشهادة العلمية للمعهد مع التفكير»؟

معلومات برسم الهيئة!

بدورنا وجهنا السؤال للمعهد وأساتذته «هل يفتقد المعهد للتفكير»؟

بالعودة لتاريخ المعهد ومرسومه يعتبر المعهد الوحيد في سورية للتخطيط من أصل 3 معاهد في الوطن العربي ككل، أحدها في مصر والآخر في الكويت.

والمعهد أكاديمي بحثي استشاري تدريسي وتدريبي، يستقبل خريجي الجامعات لمدة عام و6أشهر تتضمن 27 مقرراً و5 حلقات بحث ورسالة تخرج تتمحور حول حالات تطبيقية ميدانية بحثية ممنهجة للبحث العلمي في مجال التخطيط والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وسوية المعهد العلمية عالية

مهند درزي (طالب) راسل معهداً في فرنسا للتخطيط لدى معرفته بمضمون مسودة تصريح الهيئة الأخير الذي سيحرم الطلبة شهادة الدبلوم، وقدم له معلومات عن مقررات المعهد وساعات التدريس وحلقات البحث والأهم درجة الشهادة التي يقدمها المعهد.

المفاجأة كانت مع رد رئيسة شؤون الطلبة في المعهد وتأكيدها لإمكانية انضمامه وتقديم مقرر أو مقررين إضافيين فقط وتعديل شهادته مباشرة إلى الماجستير وليس الدبلوم فقط! 

باسم.... التطوير؟

درجة الشهادة تشكل نقطة خلاف رئيسة بين الهيئة التي لم توضح في تصريح تشرين عن كيفية «تعديل مهام المعهد جذرياً».

وبين المعهد الذي يتخوف من تقزيم دوره إلى مجرد مركز تدريبي.

هذه الخاتمة سبقها سعي حثيث من كوادر المعهد للقاء الرداوي بأربع كتب رسمية بقيت معلقة دون إجابة.

لتبرز تناقضاً صارخاً في آلية التواصل بين الهيئة والمعهد التابع لها وترأس مجلسه الاستشاري.الذي أكد الرداوي تفعيله في جريدة تشرين.

في حين أكدت مصادر أن المجلس المذكور «لم يجتمع منذ عشرة أعوام». 

لا حمداً ولا شكوراً!

رغم كل ماذكر تتفق كوادر المعهد على ضرورة تعديل مرسوم المعهد المتقادم، الذي لم يخصص للمعهد كوادر ونظماً مالية أو إدارية أو ملاكات كافية حتى للكادر التعليمي، ما خفض عمل المعهد للحد الأدنى.

نجم عن هذا الوضع وجود 28 أستاذاً متطوعاً لقاء دخل لا يتجاوز 48 ل. س للساعة التدريسية الواحدة!

منهم وزير التخطيط الأسبق الدكتور عصام الزعيم و الدكتور انترانيك توماس الذي جدول الاقتصاد الجزائري رقمياً وقدم طريقة لتقييم المشروعات من وجهة نظر قومية، والدكتور قدري جميل والدكتور صموئيل عبود.. 

خبير خطير!

تطوير المعهد ليس وليد اليوم فقد سبق لجنة الرداوي، لجنة شكلت من رئيس الهيئة الأسبق الدكتور الدردري لوضع مرسوم جديد استمر العمل عليه لعامين.

وتوقف العمل في المعهد إثر زيارة خبير ألماني موفد من الهيئة بمنحة من مؤسسة جي تي زد الألمانية.

الخبير في زيارته الاولى سأل الأساتذة: ما مشاكلكم؟

في الزيارة الثانية التي انتظروا فيها مقترحات لتطوير المعهد.... عاد لسؤالهم مجدداً:

ما مشاكلكم؟ 

من تحت الدلف!

لدى تعيين رئيس الهيئة الرداوي في منتصف الشهر الثالث من هذا العام، شكل لجنة ثانية في 2542007 بالقرار 384 لتطوير المعهد، قدمت المرسوم الذي أعلن عنه في تشرين في 352007 .

الرداوي يرى أن المرسوم هو «تغيير جذري لمهام المعهد».

بينما يؤكد الدكتورعبد الناصر ناصر أن المرسوم «الجديد أسوأ بالمقارنة بين مشروع المرسوم المقدم من اللجنة الأولى الذي توصل لوضع 4 تصورات ومقترحات لتطوير المعهد».

مع ملاحظة أن «اللجنة الثانية حصلت على مشروع مرسوم اللجنة الأولى دون إعلام المعهد بأنها تعمل على وضع مرسوم جديد يخصه».

يرى الناصر في ذلك «مؤشراً لعقلية إلغاء ونسف الآخر دون وجود أي مؤشر لتطوير المعهد فعلياً».

فاللجنة الأولى ضمت 20 شخصاً منهم أساتذة المعهد الذين عملوا بشكل تبرع،

بالإضافة لخبراء ومستشارين ماليين وقانونيين وإداريين من كل من وزارة التعليم العالي كالدكتور رياض العجلاني أمين سر مجلس التعليم العالي، و وزارة المالية ومعهد إدارة الكوادر العامة.

في الوقت الذي اقتصرت فيه اللجنة الثانية على ستة أشخاص جلهم من مدراء مراكز التدريب على اللغات بالإضافة لمدير موارد بشرية ومنهم من يحمل اختصاص قلبية.

ولم تستعن اللجنة الثانية بأي مدرس في المعهد رغم نص المادة 3 منها أن تستعين بمن تراه مناسباً لإنجاز مهامها.. 

بالعربي!

هذا الفرق بين اللجنتين على مستوى الشكل، على مستوى المضمون يوضح د. الناصر كيفية تغييب أكاديمية المعهد.

يقول الناصر «تم تخفيض كل مايشير لأكاديمية المعهد وعلميته بدءاً من حذف طلب تحويله لهيئة علمية ذات طابع أكاديمي، وصولأ إلى تغيير مهام المعهد الأكاديمية من البحثية الاستشارية أولاً إلى التدريبية التدريسية وحتى حذف صفة عميد معهد وتحويلها إلى مدير»!.

والثغرة الأكبر التي ستواجهها الهيئة برأي المعهد في مرسومها هي «إلغاء الميزة الأكاديمية التعليمية لمعهد عمره 41 عاماً».

وذلك «بإسقاط الصفة التدريسية للخريج في المادة 2 من مشروع مرسوم اللجنة الأولى، فلم تشر مسودة المرسوم الجديد الذي وضعته اللجنة الثانية أي ذكر أو توصيف لدرجة الشهادة العلمية التي يفترض أن يحصل الطلبة عليها في النهاية». 

سقط سهواً!

لدى المقارنة بين المرسوم القديم ومسودة المرسوم الجديد المعلن من الهيئة تحت يافطة التفكير والمعنون في تشرين على أنه تغيير، يترحم أساتذة المعهد على المرسوم القديم.

بالنظر لما قدمه المشرع في عام 1966 من حوافز وامتيازات للمعهد منها..

حوافز مالية 5% جعلت من معهد التخطيط المعهد الوحيد المشمل بهذا الحافز في قانون العاملين الموحد.

وحوافز معنوية بدرجة ترفيع استثنائية تبلغ 7% لخريجي المعهد، بالإضافة لشهادة الدبلوم آنذاك. 

فماذا يقدم المرسوم الجديد؟

لا شيء برأي الدكتور قدري جميل الذي يسأل الهيئة «هل يتعارض التفكير مع رفع الدرجة العلمية لخريجيه؟ أم أن الهدف هو إلغاء المعهد بأية حجة كانت بما فيها التفكير»؟

يرد د.جميل ما حدث مؤخراً من تقزيم للمعهد وكوادره وتخفيض موزانته لعقود.

مؤكداً «أن الوضع اليوم أسوأ لوجود نوايا لدى الفريق الليبرالي في الدولة لوأد المعهد، لأن كلمة تخطيط تستفزهم وهذا دليل جهل، بالنظر لاحتواء دول اقتصاد سوق عريقة مثل فرنسا لمعهد تخطيط يلعب دوراً في الدراسات المستقبلية».

فهل منع المعهد من لعب هذا الدور؟ 

جمر تحت الرماد

الهيئة تؤكد على دور المعهد ومهامه المستقبلية في مساعدة الدولة لرسم السياسات

الاقتصادية والتحول لاقتصاد السوق الاجتماعي..

أساتذة المعهد من جهتهم يعتبرون أنفسهم بحكم المغيبين، ويستندون لتجربة مريرة تبدأ من مراسلتهم في المعهد لرئاسة مجلس الوزراء لدراسة وتقييم المشاريع الاقتصادية، الأمر الذي استقبل بداية بشكل إيجابي وفي النهاية بالتجاهل.

وإلى تجربة أخرى لم يمض عليها زمن طويل لدى مشاورتهم أيضاً بداية في صياغة الخطة الخمسية العاشرة بشكل تطوعي ومن ثم إقصائهم عنها..

فالمعهد التابع لهيئة التخطيط والذي ساهم في خطتها لا تحتوي مكتبته نسخة من الخطة الخمسية العاشرة كمرجع له. 

تعتيم إعلامي

مصطلح التفكير الشهير استنفر المعهد لتقديم رسائل بحثه البالغة 300 دراسة خلال السنوات الخمس الماضية فقط.

وتتناول النمو، البطالة، هجرة العقول،الموازنة ودورها و الأجور والأسعار والكتلة النقدية وغيرها الكثير من الدراسات التي يؤكد كل من الأساتذة والخريجيين أنها منعت من التداول وتم التعتيم عليها.

بالإضافة للتعتيم على خريجي المعهد، ففي الوقت الذي يجري تخفيض دور المعهد، تستعين الجهات إياها بخبراتهم التي تشهد لها بالمستويات العالية دولياً.

إذ يشكل خريجو المعهد 7 من أصل14 شخصاً في لجنة دعم القرار الاقتصادي لنائب رئيس مجلس الوزراء الدكتور عبد الله الدردري.

الذين تم قبولهم بعد امتحانات دقيقة من خبراء برنامج الأمم المتحدة للتنمية!

في السياق ذاته تبرز مفارقة أخرى تستند إليها كوادر المعهد كمؤشر لحجم الإقبال على المعهد الذي لم يكن عدد خريجيه في التسعينات يتجاوز العشرين طالب، بينما تقدم هذا العام للالتحاق بالمعهد 270 طالب قبل منهم 130 فقط..

وأكدت مصادر لنا «أن بعض الجهات التي تعمل على إغلاق المعهد اليوم حاولت التوسط لدى أساتذة المعهد لقبول بعض الطلبة». 

تفريخ موظفين!

إذاً ما الهدف من هذا كله؟

د.قدري جميل يرى أن «الهدف من منع وجود مركز للبحث العلمي في مجال التخطيط كي لا يوجد من يكشف الألاعيب في الحياة الاقتصادية الاجتماعية، بتحويل المعهد من بحثي إلى مركز تدريبي لتفريخ موظفين لا يعرفون سوى كلمة نعم»!

 في النهاية نضع مطالب الطلاب بين يدي الهيئة التي تتمحور بتشكيل لجنة ثلاثية تضم الهيئة والمعهد والجهات الاستشارية اللازمة.

وإعادة المعهد إلى دمشق وفق مرسومه الذي نص على ان يكون المعهد ضمن العاصمة ليكون قريباً من مراكز صنع القرار الاقتصادي والمؤسسات الاقتصادية الرسمية، ليعمل بشكل أفضل في مجاله البحثي..

فالنقلة الأخيرة التي تمت بقرار من رئاسة مجلس الوزراء لخارج دمشق في التل تدفع كوادره لتشبيه المعهد بواقعه الحالي «بالمنفى كاسم على مسمى»!

■ سها مصطفى