عذراً هشام.. سنستمر!

..نعم سنستمر نعمل، ونقاوم، ونناضل، ونعطي، ونتجاسر، ونفتدي، نسهر، ونمرح، ننكسر، ونحزن، وننهض، ونبتسم استهزاءً وزهداً- مثل محياك دائماً- ونموت..! لينهض من تركناهم وهم يبتسمون استهزائاً وزهداً- مثل محياك دائماً..

لا أعلم إن كنت الآن أخاطبك أم أخاطب هذا الموت الأرعن الذي اختطفك ويختطفنا تباعاً.. بأزمان قياسية..وبتحد جلف؟!

تسعة وثلاثون عاماً يا هشام! تسعة وثلاثون من تقلبات الهوى وتنوع مصادر المعرفة والانتماء، ولما استقرت بك الهوية بتوقيعك المفضل«شيخاً شيوعياً» باحثاً في التراث بقراءة مختلفة، تختار حفرة تحت التراب، تستوقفنا قليلاً أو كثيراً بعد موكب جنائزي يخترق ما يشبه اللامكان نحو مسقط الرأس مع بعض طقوس، ثم نمضي في عملنا اليومي، ومن ضمنه البحث عن تعويض معنوي وربما مادي للفراغ المباغت الذي أحدثه رحيلك المبكر.

لا وقت للفجيعة بعد أن أدمناها وأدمنتنا.. لا وقت للحزن إلا في لحظات الشرود وعدم التصديق.. بالأمس كان هنا، وقبله كان هناك، هنا تبادلنا السلام والعناق على عجل واتفقنا على لقاء قريب.. وهناك كان يداخل حول التراث الإسلامي، وهنا كان يشكل مجموعة لوحدة الشيوعيين.. وهناك كان يتدخل لصالح طالب خدمة منه (وهم كثر)، وهناك هناك، حسب الرواية، وقبل أسبوعين فقط كان يصرخ متحدياً بصلابة الشيوعي الواثق من خطه وانتمائه وسط مركز انتخابي مُنع فيه انتخابه: «أنا هشام باكير مرشح اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين لعضوية مجلس الشعب وهؤلاء أهلي يريدون انتخابي ومن لديه اعتراض فليخبرني..!»

هنا.. وهناك.. ويستمر ضغط الذاكرة على نحو متقطع.. لكن لا وقت للفجيعة بعد أن أدمناها وأدمنتنا..!

ما يحز في نفسي يا هشام أني يوم الأربعاء قبل يوم واحد من رحيلك، عندما التقينا بالمكتب وكانت المرة الأولى التي التقي فيها بك بعد عودتك من مدينتك بانتهاء الانتخابات، لم أدرك أنها ستكون الأخيرة وإلا كنت أطلتها أكثر: قبلات سريعة في الموزع بين غرفتين أخذت كل منا إلى عمله، «الحمد على السلامة عن جد بعد الانتخابات، صار فينا نشوفك أكثر من أول وجديد.. على فكرة لسا بدي منك القصة الفلانية...». «أيه.. أكيد ولو..بنشوف بعض، أصلاً مشتاقلكم كتير!»

ولكننا (وبكل بساطة) لم ولن نلتقي..!!

يعز الفراق.. ولكن لا وقت للفجيعة بعد أن أدمناها وأدمنتنا.. بمشاهد الموت في فلسطين والعراق ولبنان، بنظرات الوداع الأخير لمن رحلوا تباعاً ممن نحبهم في أوساطنا أسرياً واجتماعياً وحزبياً و«قاسيونياً»..

هنا وجع من نوع خاص.. ما سر هذه الجريدة حتى الموت يتنمر عليها..؟ خلال عامين فقط رحل عادل الملا محرر الشؤون العربية وتابعنا من بعده.. لحقه كمال مراد مخرجها وسكرتير تحريرها وأحد أعمدتها الأساسية وتابعنا من بعده، ثم سهيل قوطرش عضو هيئة تحريرها ومسؤول صفحاتها النقابية وتابعنا من بعده، والآن هشام باكير الذي قدم لها إضافة تميزها عن كل الصحافة الشيوعية في سورية والعالم ببحث التراث بقراءة معاصرة، وهانحن سنتابع من بعده.. وسنرحل من بعده تباعاً ليأتي من يواصل من بعدنا نحن أيضاً..

كنا أول من رفع شعار «المقاومة الشاملة»..؟! ويبدو يا رفيق هشام أنه بات علينا في تيار وحدة الشيوعيين السوريين أن نضيف لجبهات ذاك الصراع جبهة الموت.. لنبتسم استهزاءً وزهداً كما (كان) محياك دائماً.. ونستمر كطائر الفينيق.. لا وقت للفجيعة.. حزننا وفخرنا في آن معاً أنك كنت في صفوفنا.. وعهدك بنا أن نتابع ونستمر في نضالنا.. وهو ما سيكون!