بعد كلّ نضاله.. المواطن السوريّ على أبواب الجمعيّات الخيريّة
بعد تدني مستوى المعيشة، ووصولها إلى حدود الفاقة عند شريحة كبيرة من المجتمع السوري، وبعد أن تخلت الحكومة عن دورها في حماية الطبقة الأكثر فقراً في المجتمع، وتجاوزها لجميع خطوط الحماية، التي كانت خطوطاً حمراء في يوم ما، لم يعد أمام الفقراء في مجتمعنا سوى اللجوء للجمعيات الخيرية، والوقوف في طوابير على أبوابها لاستجداء بعض الفتات علها تسد رمقهم، وانتظار ما يتصدق به أتقياء الأغنياء على تلك الجمعيات التي توزع هذه الصدقات حسب معرفتها.
على أبواب الجمعيّات الخيريّة؟!
لقد كان المواطن السوري في السابق، وبالرغم من كل الأزمات التي مرت به، والعقوبات الاقتصادية التي فرضت على البلد من الخارج، محصناً من فقر يصل حد الفاقة، فمهما كانت الحالة المادية للمواطن تسوء، كان بإمكانه أن يؤمن حاجاته الأساسية من مأكل وملبس وتدفئة في الشتاء، وكان إذا مرض يعالج مجاناً، وهناك مثل شائع جداً يقول (ما حدا بينام بلا عشاء) وكان هذا المثل يعبر خير تعبير عن حالة المواطن الفقير المحصن في تلك الفترة، حيث كان مصدر حصانته السياسة العامة للحكومة والنظام، فالتعليم والصحة حقٌّ لكل مواطن يضمنه له الدستور، والخبز والسلع الأساسية كانت تحدد سعرها الحكومة، بحيث لا يكون هناك فرق كبير بين سلة السلع الأساسية ودخل الفرد، صحيح أن المواطن كان يقف في طوابير على أبواب المؤسسات الاستهلاكية أيام الأزمات، ولكنه لم يكن يشعر بذل الاستجداء، لأنه يقف على باب مؤسسة حكومية، تقدم لجميع مواطنيها بالتساوي سلعاً مدعومة بالرغم من الضغوطات التي تمارس عليها من الخارج. أما الآن وبعد أن انفردت حكومتنا بنهج اقتصادي لم يسبقها إليه أحد، (أسمته اقتصاد السوق الاجتماعي)، جعلت نفسها بموجب هذا النهج في حلٍّ من التزاماتها تجاه مواطنيها الفقراء، وأسلمت زمام أمورهم إلى فئة من الأثرياء يتحكمون بمصائرهم تحت اسم اقتصاد السوق (الشق الأول من نهجها الاقتصادي) كما أنها لم تنظم آليات اقتصادها السوقي بقوانين وتشريعات تجعل السلع خاضعة بشكل فعلي للعرض والطلب تحت ذريعة الشق الثاني من اقتصادها (الاجتماعي)، فبقيت الوكالات الحصرية، ولم تصدر تشريعات تنظم المنافسة، وصار التاجر القوي هو المتحكم الوحيد بالعرض، وبالتالي فالمواطن مرغم على الطلب بالسعر الذي يحدده التاجر كونه في معظم الأحيان الوكيل الحصري للسلعة، هذا بالإضافة إلى المضي قدماً في خصخصة القطاعات التي كانت تقدم الخدمات المجانية للمواطنين، ومضاعفة الضرائب، وفرض مطارح ضريبية لا مبرر لها على المواطن الفقير ولمجرد تحصيل مبالغ إضافية منه. أما أصحاب رؤوس الأموال فقد قدمت لهم الحكومة كل التسهيلات، والإعفاءات الضريبية، كما غضت الطرف عن تهربهم من دفع التزاماتهم، ما أدى بالنتيجة إلى حدوث هوة كبيرة بين دخل المواطن وبين ما يجب أن ينفق لشراء احتياجاته الأساسية، وبالتالي وصول أعداد كبيرة من المواطنين إلى حدود العوز والفاقة، ما جعلهم مضطرين للاستجداء على أبواب الجمعيات الخيرية. طبعاً بالإضافة إلى ارتفاع معدل الجريمة وانتشار الدعارة كنتائج أولية لهذا النهج.
رضينا بالجمعيّات الخيريّة والجمعيّات لم ترضَ بنا!
ضمن هذا الواقع المزري وانتشار الفساد في مفاصل المؤسسات الرسمية الحكومية، تنشط الجمعيات الخيرية، التي يعمل قسم منها (وفق الضوابط الأخلاقية والدينية) على تأمين بعض من احتياجات المواطنين شديدي الفقر، بينما انغمس قسم آخر منها في دوامة الفساد المستشري وصارت جزءاً منه، وشرعت تلك الجمعيات تستغل حاجة الناس للمساعدة، وتستخدم معايير لا أخلاقية في طريقة تحديدها للمستحقين، فتعطي غير المستحق وتمنع عطاءها عمن هو بحاجة إلى مساعدة.
شهادات مؤلمة
السيدة (آ.ل) قالت: أنا متزوجة، وزوجي يشكو من إعاقة في رجله تمنعه من ممارسة العمل بشكل متواصل، إذ يعمل يوم ويعطل عن العمل خمسة أيام، وقد كنت أعمل كمستخدمة في البيوت، لنتمكن من دفع أجرة البيت وإعالة أطفالنا الثلاثة، ولكنني وأثناء عملي تعرضت لحادث سقوط، أصبت على إثره بعجز في رجلي، ولم أعد قادرة على متابعة عملي، فنصحتني إحدى جاراتي، بالتسجيل في إحدى الجمعيات في ريف دمشق، وفعلاًَ ذهبت للجمعية، فطلبوا مني بعض الأوراق من الشؤون الاجتماعية والعمل، ومن المختار، فذهبت إلى المختار الذي حاول أن يتحرش بي مستغلاً حاجتي مقابل إعطائي هذه الورقة، فتركته وذهبت إلى مختار آخر، ولكن ورغم حاجتي الماسة ووضعي المزري لم يأت ممثلو الجمعية ليكشفوا على البيت الذي أسكنه، ولم يسجلوني في الجمعية، علماً أنني أعرف امرأة تمتلك بيتاً في منطقة لا بأس بها، وتمتلك سرفيساً يعمل على خط البرامكة ـ التضامن، ولديها أولاد شبان قادرون على العمل، ومع ذلك فهي مسجلة في ثلاث جمعيات تأخذ مخصصات منهم، وتبيعها للجيران أو لأصحاب محلات السمانة!
وتابعت: كنت أعتقد أن الجمعيات الخيرية في ريف دمشق هي جمعيات تقوم على أساس أخلاقي وديني وتتعامل مع الناس بإنسانية، ولكنني ومن خلال الجمعية التي حاولت التسجيل بها، وجدتهم لا يقيمون وزناً لأي عمل إنساني، فعملهم قائم على المحسوبيات والمعرفة الشخصية.
أما السيدة وجيهة صايمة فقد بينت أن زوجها فوزي الشوماني من سكان حي الميدان كان مسجلاً في جمعية باب مصلى، وكانت الجمعية تدفع له معونة شهرية قيمتها 500 ل.س بسبب سوء أوضاعهم المادية، وحينما توفي زوجها، بقيت أرملة لوحدها وعمرها الآن يفوق الـ70 عاماً، وقد قطعت الجمعية المعونة عنها..
وعن رأيها في الجمعيات الخيرية بينت أن هناك جمعيات تعمل بصدق، وهناك جمعيات تتعامل بقسوة مع الناس المحتاجين للمساعدة. وبينت أن إحدى الجمعيات تتعامل بطريقة إنسانية مع جميع الناس ولا تفرق بين محتاج وآخر، وأكدت أنها أجرت عمليتين تكفّلت هذه الجمعية بجميع تكاليفهما، إذ بلغت كلفة العملية الأولى 30 ألف ليرة سورية والثانية 140 ألف ليرة سورية، بالإضافة إلى أنهم يجرون العمليات للمحتاجين في أفضل المشافي ولدى أمهر الأطباء، وعندما يجدون شخصاً محتاجاً لعمل جراحي فإنهم يدفعون تكاليف علاجه مهما بلغت. وأضافت: لقد شاهدت أناساً أجروا عمليات عن طريق هذه الجمعية كلفتها أكثر من مليون ليرة، تكفلت الجمعية بدفعها بالكامل.
أما السيد وليد (أبو وائل) فقد بين أن هناك الكثير من عمليات النصب تتم باسم الجمعيات الخيرية، فهناك جمعيات خيرية ذات سمعة جيدة، ولكن بالمقابل هناك جمعيات تعمل بطرق احتيالية، مما يسيء إلى الجمعيات الأخرى، فبعض الجمعيات في ريف دمشق تسجل لأناس غير محتاجين كتنفيعة لهم إما لصلة قرابة أو معرفة بهم، أو أن تسجل لنساء مقابل استغلالهن جسدياً، كما أن بعض الجمعيات تعطي إيصالات لبعض النسوة أو الرجال الذين يقفون على الأرصفة وأبواب المساجد ويأخذون تبرعات من الناس مقابل نسب عالية مما يجمعونه تذهب لجيوبهم. وتابع أبو وائل: أنا رجل مقعد منذ خمس سنوات وليس لدي معيل سوى الله، وما يتصدق به علي الجيران، ومع هذا حاولت التسجيل في جمعية فرفضوا التسجيل لي بحجة أنني أملك بيتاً، علماً أن بيتي لا تتجاوز مساحته الـ50 متراً ولا تدخله الشمس، وقد اشتريته أيام كنت قادراً على العمل، فهل يجب أن أبيع بيتي حتى أحصل على معونة الجمعية؟
السيدة (وداد.ق) قالت: أنا أرملة ولدي أربعة أولاد، وأعمل مع ابنتي الكبيرة داخل منزلنا بـ(شك الخرز على الكلابيات) فأنا أتعامل مع ورشة خياطة تجلب لي الطلبية إلى البيت مقابل مبلغ بسيط لا يكفي لإعالة أولادي، وقد سجلت في جمعية تعطيني 500ل.س شهرياً بالإضافة إلى مخصصات عينية من السكر والشاي... وهذه المعونة تساعدنا وتخفف عنا بعض أعباء الحياة الكثيرة.
الجمعيّات الكبرى
إحدى الجمعيات المركزية المعروفة تموّل الناس الأكثر فقراً في الجمعيات الأخرى، فهي تجمع التبرعات العينية من مأكل وملبس ودواء وتوزعها على الناس الذين ترشحهم الجمعيات الأخرى على أنهم الأكثر حاجةً، كما أنها تقبل التبرعات من الأدوات المستعملة والألبسة المستعملة وكذلك الأدوية المستعملة، ولديها موظفون يقومون بفرز هذه التبرعات.. وفي شهر رمضان تتعامل الجمعية مع المطاعم الكبيرة فتأتي بما يزيد عن الولائم الكبيرة وتقسمها إلى وجبات توزعها على الصائمين وقت الإفطار..
ولكن المطب الذي تقع فيه هذه الجمعية اعتمادها على مصداقية الجمعيات الأخرى التي ترشح لها الناس المحتاجين، فتقييم الناس الذين هم بحاجة ماسة للمساعدة يأتي حسب ما تراه الجمعيات الأخرى، وليس وفق تقييم هذه الجمعية التي لا تسجل لأي شخص ما لم يكن مسجلاً أصلاً في جمعية أخرى.. ومرشحاً لهذه الجمعية.
فالسيدة عائشة ق. قالت: لقد حاولت التسجيل في جمعية ببيلا ولكنهم لم يسجلوني كوني من الميدان، فذهبت إلى الجمعية (الكبرى) فلم يستقبلوني لأنني غير مسجلة في جمعية أخرى، وأضافت أعرف امرأة تعمل في صالة أفراح براتب 14 ألف شهرياً ولديها بيت ملك وهي مكتفية مادياً ومع ذلك هي مسجلة في جمعية ببيلا وتأخذ راتباً ومخصصات عينية من الجمعية. فما هو معيار الجمعيات أثناء تسجيلهم للناس؟
ولدى سؤالنا عن وضعها المادي والمعيشي قالت: لدي بنت وحيدة يتيمة الأب أعيش معها في بيت أجرته 5 آلاف ليرة سورية وأنا غير قادرة على العمل وأعيش مما تتقاضها ابنتي من عملها في ورشة الخياطة. وفي حال تزوجت ابنتي لن يبقى لدي أي معيل، ولا أدري كيف سأتدبر أموري في ظل هذا الغلاء الفاحش.
أما السيدة (فاطمة.ج) فقد قالت: أنا أرملة منذ 20 عاماً وأعمل في بيع بعض الإكسسوارات التي أدور بها على البيوت وليس لدي أولاد ولا معيل، ولكنني أعيش على ما أنتجه من عملي، الذي لم تعد لدي القدرة على القيام به بشكل دائم، فالمرض بدأ يدب في جسمي، ولكنني لم أفكر أبداً في التسجيل في أية جمعية، فأنا مستعدة للموت جوعاً على أن أستجدي أحداً حتى وإن كان جمعية خيرية، لأنني أسمع قصصاً كثيرة عن تلك الجمعيات وطريقة تعاطيها مع الناس المحتاجين وخصوصاً النساء، فبعض الجمعيات لا تسجل إلا النساء اللواتي يخضعن لابتزاز القائمين عليها.
الجمعيّات ليست هي الحلّ
مما لا شك فيه أن الجمعيات الخيرية هي هيئات اجتماعية تستطيع المساعدة على التخفيف من وطأة الحالة الاقتصادية التي وصلت إليها الطبقات الفقيرة في مجتمعنا، في حال كان القائمون على هذه الجمعيات أناساً أكفاء يمتلكون رادعاً إنسانياً وأخلاقياً قبل الرادع الديني، يمنعهم من ابتزاز أصحاب الحاجة من المعدمين، ولكن بالتأكيد ليست هي الحل الأمثل للفقراء والمعوزين، فالمسؤولية هي مسؤولية الدولة والمؤسسات الرسمية المعنية أولاً وأخيراً، ومن المعيب أن تقبل أية حكومة أن يصطف قسم كبير من شعبها على أبواب الجمعيات الخيرية.. وباعتقادنا، أن الوقوف لأيام على أبواب المؤسسات الاستهلاكية، أفضل ألف مرة من استجداء صدقة من جمعيات يمولها البعض لغايات وطموحات مختلفة، خاصة إذا كان القائمون عليها من أصحاب النفوس المريضة.. فهل في نية الحكومة أن تحول شريحة كبيرة من المواطنين السوريين إلى متسولين، أم أن لها رأياً آخر في تبعات اقتصاد السوق اللااجتماعي الذي تحاول عبثاً أن تجعله جميلاً وهو في غاية القبح؟؟.