محافظة الحسكة.. غيض من فيض
قبيل التحاق مدير مؤسسة كهرباء مدينة عاموده بدوامه الصباحي رأى قطة جاثية على قمة عمود كهرباء التوتر العالي (لا أدري كيف صعدت إليه)، وقد جمد البرد القارس أوصالها واعتراها خوف الهبوط، وإذ به بعد قليل يرسل الرافعة مع السلة وطاقمها إلى المكان المذكور، فأنزل تلك القطة حيث لاذت بالفرار باحثة عن مكان دافئ تأوي إليه.
قلت في نفسي: هل وصل الرفق بالحيوان عند بعض أصحاب الضمائر الحية إلى هذا الحد من الشفقة؟ ولم يصل الرفق بالإنسان عند بعض النفوس المريضة إلى مستوى مشابه رغم كل ما يعانيه الناس من فقر وغلاء وبطالة، ورغم كل ما يعانيه الوطن من نهب وفساد على الصعيد الاجتماعي – الاقتصادي.. والوطني.
واقتداء بهذا الموظف (العادي) وكون (الشيء بالشيء يذكر) أدعو:
- العاملين في العملية التربوية والتعليمية إلى مراقبة طلابهم بعد خروجهم من مدارسهم حيث يتفننون في أنواع الملاكمة والسباب والشتائم مع بعضهم ومع الآخرين..
- وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل للإطلاع على آلاف أسماء العاطلين والباحثين عن فرص عمل والمدونة أسماؤهم في سجلات مكتب التشغيل في المحافظة منذ سنوات دون جدوى، أما أعداد العاطلين الذين لم يسجلوا أسماءهم فحدث ولا حرج، ومن لا يصدق فليأت إلى عامودة والدرباسية وغيرها من مدن محافظة الحسكة ليرى المئات من أمثال هؤلاء يقبعون في المقاهي وأماكن التسلية واللهو أو امتهان بعض المهن الهامشية (بيع الدخان المهرب، وأوراق اليانصيب، وحتى السرقة والتسول).
- رجال الدين الأفاضل، مع احترامنا الكبير لهم ولدورهم وخاصة في مجالس العزاء وأماكن العبادة، أن يشيروا أيضاً إلى مواطن الخلل والفساد والظلم الاجتماعي، وأن يذكروا سامعيهم ومجالسيهم بسيرة المسيح (يسهل على الجمل أن يدخل ثقب إبرة أكثر من دخول الغني إلى ملكوت السماء، وطوبى للفقراء لأن لهم ملكوت السموات)، ومواقف علي بن أبي طالب الذي قال: (إن للفقير حقاً في مال الغني، فما اغتنى غني إلا بفقر فقير)، ثم ألم يقل الخليفة العادل عمر بن الخطاب (لو أن شاةً عثرت على شاطئ الفرات لخشيت أن يحاسبني الله عنها، لِمَ لم أمهد لها الطريق)..
- المسؤولين في محافظة الحسكة لزيارة قرية (جوهرية) التابعة لمدينة عامودة للوقوف على معاناة مواطني هذه القرية البالغ عددهم /400/ نسمة، فهم محرومون من مياه الشرب النظيفة منذ أكثر من /3/ أشهر بعد أن أغلقت الجهات ذات العلاقة البئر الارتوازي في القرية إثر تلوث مياهه.. فما هو الحل؟ الدولة لاتؤمن الماء، والآبار السطحية أصبحت أيضاً ملوثة، وليس باستطاعة كل المواطنين تأمين صهاريج وآليات نقل، ليس هناك من يبيع الماء، والوعود كثيرة علماً أن تأثير هذه المشكلة وأضرارها على البيئة والصحة العامة كبير جداً.
- أدعو من بيدهم شؤون البلاد والعباد لتحسين أحوال المواطنين الأكراد المجردين من الجنسية نتيجة إحصاء عام 1962 السيئ الصيت في محافظة الحسكة.. لقد طال انتظار هؤلاء وكل يوم تزداد معاناتهم، ولا سيما أنهم محرومون من البطاقة التموينية ويواجهون خطر التهديد برفع الدعم عن المشتقات النفطية. أما آن الأوان لإعادة الجنسية لهم ورفع الغبن عنهم.
- وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي لدراسة الواقع الزراعي في المحافظة، فمعظم مساحات الأراضي المزروعة والصالحة للزراعة تعتمد على الأمطار والزراعة البعلية، لأن الجفاف والتصحر وشح الأمطار وعدم استثمار الأرض استثماراً عقلانياً وبالاستخدام الأمثل لوسائل الزراعة الحديثة، وسوء تقديم المساعدات والقروض ومستلزمات الإنتاج الزراعي، أفقر الفلاحين، وهو يؤثر سلباً على الاقتصاد الوطني وعلى المستوى المعاشي لدخل الفرد في هذه المحافظة التي تعتمد على الزراعة بالدرجة الأولى، وهي الغنية بالذهب الأبيض (القطن) والأسود (البترول) والأصفر (القمح).
ومع ذلك فالأفواه جائعة، والجيوب فارغة، والهجرة الداخلية والخارجية إلى سوق العمالة تتسع باضطراد..
السماء لا تمطر ذهباً أو فضة، والأرض لا تطعم هؤلاء لقمة كريمة تمنع عنهم الخوف والقلق، وهذا يتطلب الوقوف على احتياجات المواطنين وفقرهم ومشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية وإيجاد الحلول الممكنة لها.
هذا وقد ظهر في السنوات القليلة التي خلت انتشار وتفشي بعض الأمراض الخطيرة في المحافظة (السكري وارتفاع ضغط الدم، والجلطة، والسرطان) الأمر الذي يتطلب دراسة ميدانية واستقرائية لأسباب هذه الأمراض التي قد تكون اقتصادية اجتماعية نفسية، والحد من استفحالها ومن ثم معالجتها..
وخلاصة القول، إن الغلاء الفاحش والارتفاع الجنوني للأسعار والبطالة السافرة والمقنعة والانخفاض المستمر لمستوى المعيشة والخصخصة ومحاولات رفع الدعم عن المشتقات النفطية، وبالتالي اتساع الهوة بين الأغنياء الذين يزدادون غنى والفقراء الذين يزدادون فقراً... والقائمة تطول، والتلكؤ في إيجاد الحلول يضعف المناعة الوطنية، ويمهد لأخذ سورية من الداخل بعد أن فشل الأعداء بأخذها من الخارج، وهي نتائج ومفردات السياسة الاقتصادية الليبرالية التي ينتهجها الفريق الاقتصادي، وقد أصبحت محاربتها والوقوف في وجهها مهمة عاجلة ووطنية بامتياز لكل القوى النظيفة داخل جهاز الدولة وخارجه في إطار ائتلاف وطني مقاوم.
■ عبد الحليم قجو