مطبّات «أحلام المدينة»
وسط الزحام وصل الباص الذي نقل العائلة القادمة من القنيطرة إلى دمشق، امرأة مع ولديها.. وصوت الانقلابات في خمسينات دمشق، المؤامرات.. الحب، الشباب الذي يحلم بواقع أفضل، الانتهازيون، الأخوة القتلة، الجبناء، التجار الجاهزون لتبديل الصور كل يوم، الراديو واسطة العلاقة بين الناس وما يدور في الخفاء، كحلم المرأة برجل يشم وحشتها القاتلة...
أحلام المدينة فيلم محمد ملص الحائز على جوائز في مهرجانات السينما، واللون المعتم لصورة المدينة في حالة الانتقال من الحلم إلى مفرداته، الناس البسطاء والخائبون، المطر ودمشق الفائضة ببردى، وقبضة الولد الصغير على الباب، ثم الدقات القوية بالرأس الصغير المدمى، رحلة السقوط في فخ التحزب ثم الانكسار، ضياع الوظيفة، ثم الموت بضربة (مقص)، وقت ذاهب إلى التغيير، حيث يقتل الأخ أخاه.. والاصطراع يأخذ شكل المواجهة الدامية، وانكسار الأم العائدة من عرس جديد خائبة.
لم تختلف المدينة أكثر من ذلك الوقت... المدينة هي هي، بالنسبة للقادم أو القاطن بين جدرانها، ازدحام يوصل إلى الجنون، حنايا لا تعترف بالنور، القادمون من عام 1967 تذوقوا المرّ ليصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية، كل ما كان يريده الجميع الموعودون بالعودة إلى الأرض بعد أيام حلمهم كان بيتاً وسقفاً، خرجوا بملابسهم، وبعضهم حمل معه (بطانية) ليغطي صغيره في الليل، لكنها كانت الأثاث الوحيد الذي نقله معه من الأرض التي ظلت حتى اللحظة أسيرة ومحاصرة.
الزحام مازال على حاله، اليأس وحده انتقل إلى القلوب... الحلم سيان إن تحقق أو مات، ضمن عيشنا في مفاصل المدينة وبشرها المتراكضين إلى لقمة الخبز.. وأحياناً يخر بعضهم صرعى في الطريق إليها، المدينة جسد البشر الذاهبين إلى حتفهم وسط الزحام المثير للفزع.
أحلام شابة انكسرت مع باب الوظيفة الحكومية، أحلام السفر لم تعد مجزية وسط الخشية من موت أو غرق أو انفجار طائرة، وظيفة القطاع الخاص نهش في الجسد واستنزاف للطاقة حتى النهاية.. دون أي أمل في أمان نهاية العمر.
التعليم والعنوسة شبحان يطاردان نساء المدينة وريفها، بعد أن لوح الشباب لحلم الاستقرار، وصار الجمال مزاراً لهواة العبيد من محدثي النعمة، وللقادمين مسرعين لقضاء ليلة ثم الطيران إلى مدينة أخرى.
الغلاء اقتحم كل شيء، ما عاد بالإمكان صنع صحن (تبولة) دون عناء، ماعادت المقبلات فراش طاولات الدمشقيين.. بل صارت وجباتهم الرئيسية، وصار المشوار إلى سواقي بردى مأجوراً.. الأسوأ من ذلك أن بردى لم يعد هناك.. تسرب إلى نبعه ونام.. وحلت مكانه أنهار من بقايانا، وبقايا طعامنا السريع.. سندويش عمرنا على الطرقات، همبرغر موتنا المفاجئ في القلب أو الدماغ.. فطائر سعينا إلى الدوام الثاني دون استراحة غداء، أما في طريق العودة في منتصف الليل أو بعده، نمشي ونحن نيام، بشر على شاكلة البشر، لكن دون روح، صالون فقط بوسادة تحت أقدامنا المتورمة من الحذاء الرخيص الذي لبسنا طوال الوقت ولم نلبسه.
مات والدي في نهاية 1999 حالماً بالرجوع إلى قريته الأسيرة، مشتهياً غطسة عشق في بحيرة مسعدة.. أو كل شجرة حنون في (جيب المسي).. مات جدي لوالدتي في نهاية 2006 حالماً بكرمه الكبير في (عيون حور)، ومازالت الحكاية تروي عن أرض أسيرة هناك وأرض مشتاقة لأجساد أبنائها، ولو كانوا موتى.
الذين بنوا ذاكراتنا عن أرض، ماتوا هنا.. في المدينة، حيث الزحام يلف كل شيء.. حتى الذاكرة.. وها نحن نجتاز خلسة أنصاف أعمارنا ونروي لأبنائنا الذاهبين إلى مقهى الإنترنيت، التلفزيون، أبنائنا الواجمين أمام الفضائيات، نروي لهم ما تبقى من ذاكرة.. قليلاً من الألم سوف نضيفه إلى عصرهم السريع.. وسط المدينة.
وسط المدينة في الصباح، جموع تطارد واسطات النقل.. في العاشرة جموع العاطلين عن العمل تدور في الشوارع.. في الحادية عشرة جموع الذاهبين إلى الرصيف يفترشون بسطاتهم وسط المدينة الحارق.. باعة اليانصيب الجوالون، بائعو (الجرابات)، والنصابون الذين ملؤوا الشوارع بجديد احتيالهم، والنساء اللواتي يبعن الدخان المهرب والبيض البلدي.
وسط المدينة في المساء، جموع تطارد (مازالت) وسائط النقل، جموع العاطلين تدور في الشوارع، باعة صور الفنانين، بائعو السيديات المثيرة وأفلام الجنس يفترشون الرصيف.. النصابون انتقلوا إلى شوارع هادئة وأنيقة، والنساء اللواتي يبعن الشرف يذهبن إلى الملاهي، سائقو التاكسي يقلون العاهرات ويتركون الأمهات مع أطفالهن في زحام الحميدية.. رتل من سيارات الأجرة العمومية تنتظر أمام الفندق المتواضع الوضيع وسط المدينة.. أحلام المدينة الضائعة.