مطبّات أصوات
لم تزل ذكرى برودة ماء نهر (المجنونة) تشعرني بالاسترخاء اللذيذ، وصوت الماء عند مواجهة حصاة كبيرة يشعرني بقشعريرة غائبة، تلك كانت قبل أكثر من ربع قرن في القرية المجاورة لجبل الشيخ حيث يحسب ألف حساب للسكن في منطقة مجاورة للجبهة.
في جوار (المجنونة) تعلمنا الشعر والدخان والمزاح الخبيث للسكير المسمى (محي الدين)، كان دائم الشرب، وكانت تعلق بحناجرنا بعض القطرات من( بطحته)، و نكهة اليانسون تحرق حلوقنا الصغيرة.
كبرنا وكبرت القرية، أيام الأمان الطويلة، والحاجة لسقف وأربعة جدران دفعت بالكثيرين للذهاب إلى السكن في ذرا الجبال، فكيف ببلدة فيها الماء والخضرة والهواء العليل، فقط يسودها القليل من الخشية في جوار عدو لا يرى.
صارت القرية مدينة في سنوات قليلة، شتاؤها القاسي وريح آذار (صرصر) كانت تطيّر السقف الحديدي للفرن الآلي حديث العهد، الكهرباء مع أول قطرة مطر، ونسمة شتوية، تودع بيوتنا أياماً، وأحياناً حفلات من الشرر المتطاير من الأعمدة الكهربائية يجعل المدينة في شبه كرنفال عظيم.
كبرنا سريعاً، كان رأس النبع في أول الصيف مزاراً لكل أبناء المدينة المتنوعة، جماعة يلعبون، يغنون، رائحة الشواء، رائحة اليانسون، وثلة تتجه نحو القبلة لتأدية صلاة العصر، تنوع لا تعرفه إلا هذه البلاد التي تتشاطر التاريخ مع كل أطياف الأرض.
في فناء طبيعي آخر، البحيرة الصغيرة (جب ربها) وتبدو التسمية من كون الناس يعتقدون أنها مجهولة المنبع، فهي بئر ربها، هناك الزوارق الصغيرة، ساعات التأمل، السباحة لمن لا يخشى من الغرق، ففي كل عام تلتهم البحيرة شاباً أو ولداً غامر بامتطائها.
في الشتاء، حيث موسم الثلج يتكرر لعشر مرات في الموسم الصعب، يغطي الثلج وجه البحيرة الساكن، استعداداً لربيع الفيض، سواق ونهر «مجنونة» وينابيع في طرقات القرية التي صارت مدينة.
ساقية صغيرة من نبع عذب ينساب ببطء غير عادي، بين الأشجار مئات الآلاف من الضفادع الصغيرة، تشكل كرنفال غناء لا ينتهي، للمتأملين فقط تلك الأهازيج.
في المطر الغزير، تمشي الطرقات كما يقول الناس كتعبير عن الغزارة، الماء لم يكن يعرف التقنين ودروس التقشف، كان دائم الصلاحية لكأس شاي رائق، دون أن ندرك نحن ساكنيها أن هناك أناساً يحلمون بكأس دون كلس.
في الشتاء القاسي، هل تعرفت على مطر يحمل الضفادع؟ العائد من دمشق في منتصف الليل يرى ما كنا نراه، الأرض الإسفلتية السوداء النظيفة تتقافز عليها الملايين الساقطة مع المطر نحو الطين، هنا ما تبقى من رائحة الأرض المشبعة بالماء والخير، هنا لم نعد قادرين على التذكر، سوى رائحة المطر في آب، يوم مسروق من شباط يمر سريعاً.
كبرنا، تركنا المدينة القرية، إلى مكان لابد من عبوره في الطريق إلى اليوم، دمشق بحواريها الضيقة، زواريبها الحنونة، بردى الهائج عام 1992، صوت ثلة العصافير الفرحة في صباح حالم ماطر في المدينة الجامعية.
ثم سنوات من القحط، مطر خائر، شتاء من شمس وعرق، بردى المتقلص حتى صار ساقية لموسم أيلول وزحمة المعرض، المياه المقطوعة لأيام طويلة، المياه الكلسية، مياه الصرف الصحي، السيران المخنوق بالرائحة التي تزكم القلب.
«المجنونة» تضاءل جنونها، صارت نهراً خائراً، مات السكير(محي الدين)، ضاعت رائحة اليانسون والزيزفون الذي انقرض، (جب ربها) غارت، لم تعد القرابين تجدي في إحيائها، صارت قبراً لذكريات زوارها، تنتظر موسماً غير عادي.
العصافير المجنونة بالغناء فرت إلى أعشاش جديدة، والشوارع المغسولة بالماء المطري صارت حفراً من تراب مغبر، الهاربون من الفقر، إلى ضواحي الفقر، صاروا مخذولين برجائهم، المدينة - القرية اختنقت مع أبنائها، مواسم السهر الصيفي لم تعد ترتجى، لا مرج أخضر لرحلة في يوم الجمعة، بساتين الغوطة استثمرت فيها الظلال، أشجار الحور ركبت مقطوعة ميتة في الجرارات الذاهبة إلى المعامل والنار.
منذ برهة، بدأت القشعريرة الراكدة بالذاكرة في الخروج إلى ربيع دمشقي ساخن، اختفى صوت الماء المصدوم بحصى ناعمة، الاسترخاء اللذيذ صار وجعاً في مفاصلنا التي هرمت، أكثر من ربع قرن أخذ الماء والشجر والذكريات، ربع قرن مرت سريعاً دون أن نعيه، ربع قرن أخذ من بين أضلاعنا أصواتاً لم تعد سوى غفوة سريعة.