مطبات بيتنا
أربعة جدران وسقف، مهما يكن ذلك السقف، قرميداً، اسمنتاً، صفيحاً.. هو بيتنا.
فمنذ أن كان الإنسان وحشاً، يأكل بعضه، أو حيواناً آخر (سواه)، أو عاشباً يلم بأسنانه البرسيم و العشب، كان حالماً.
حتى ذلك الوحش الليلي، والوحوش السرمدية، والثلاثة المستحيلات كان لها حلم الهجوع إلى مأوى.
النمل، النحل، السمك، الديناصورات، الطيور..حلمت ذات زمن بوكر وعش وجحر، أما الحيوان الذي صار «نحن»، فقد حلم بمأوى على شجرة، مغارة، بيت... عرش في قصر.
كل الحيوانات الأخوة وجدت ضالتها أو ارتضت بها، بيتها، أما الشقيق الكبير فما زال ضالاً وهائماً على وجهه.
وبدأ الموت والقتل منذ الخلاف الأزلي على النزيل الذي سيسهم في دفء البيت، في رسم الشكل النهائي الذي سيكون أسرة بشرية، سقط الحيوان الذي نحن في انتصار غريزته.
عاد القاتل إلى مغارته مزنراً بعظم الضحية، ومارس التكاثر منتشياً، بيت صنعته الطبيعة وامرأة دافئة، البيت الأول من قتل.
منذ تلك اللحظة المعجونة بالدم والنشوة، صار البيت، الاستقرار، التناسل، النوم، التجمعات، التجاور، الخيانة، التقاتل، السقوف، الأبواب... القرى والمدن والحضارة، من حلم نشوة ودم (بيت).
لتاريخه العام 2008 بالوتيرة نفسها، مازال السوري يبحث عن سقف وأربعة جدران، بيت أول ليمارس النشوة الأولى، دون دفع ضريبة جده، راضياً (بغرفة صغيرة وضيقة)، بالإيجار.
تراكمت البيوت فوق بعضها، وتراكم فيها البشر قطعاناً خائفة من النوم خارجها، صار السقف غطاءً يستر من البرد والموت والنشوة المكبوتة بالقهر.
صارت أملاكاً، الجبال والأودية وحتى المستنقعات، لا بد من مال لشراء الأرض والجدران والسقف، أو لوقت مأجور بالدفع لتمارس نشوة الوجود بلا تلكؤ، ثم لاكتشاف خديعة الوهم في البقاء.
العام 2008 السوريون الراغبون بالعيش تحت سقف النشوة التي ستصنع وجوهاً وبشراً يكررون الوهم، ازدادت جموعهم، وتكاثرت قطعان القاعدين دون مال وبيت.
السوريون الخارجون إلى الحياة بفحولة ضامرة يصطفون وراء بعضهم في دور الوظيفة، المازوت، الغاز، وربما في غد: الخبز، في الطابور الطويل نخلو من نشوة التكاثر من أجل نشوات جديدة أهمها البقاء.
ككل البشر الصالحين عاش السوري، بريئاً من دم أخيه، ومن الغزوات، توظف في الدولة، وعين له راتب مقطوع كحالته، يمكن أن يساعده على الاستدانة، والسداد عند آخر الشهر.
عاش جل عمره يحمد الله على الوظيفة، يذهب في الصباح ويعود بعد الظهر، ثم اخترع بصمت أعمالاً يمارسها بقية يومه فهي أجدى من الصراخ والدعاء.
هكذا بصمت صار الراتب الشهري لسداد الديون، والعمل الثاني لبقية الشؤون الحياتية (لباس- مرض – مشوار الحديقة)، أما إن تعرض لكارثة أو مصيبة فلن ينفع العملان.
كبر أولاده ودخلوا مدارس الحكومة، صار مع ذلك عبئاً جديدا، كبروا أكثر وعاش من حصل على الشهادات في انتظار الوظيفة التي حلم أبوهم يوماً أن يتسيدوها ويرتاح في أرذل العمر من قصة الحياة البشرية التي عاشها في الطابور.. لكنهم انضموا معه في الانتظار الطويل ريثما يحين وقت مسابقة أو واسطة.
عاشوا جميعاً في صمت، عمل الجامعيون زبالين، والشهادات المتوسطة في بيع اليانصيب، والصغار في بيع الدخان المهرب، بصمت دون صراخ أو دعاء.
تحت سقف واحد وأربعة جدران، عاش الصغار وكبروا، ثم عاشوا الحلم البدائي بالسقف نفسه، تغيرت الحال، صار لدينا مدن مخالفة، وأخرى تسمى سوار الفقراء، مشى الصغار الذين كبروا إلى هناك حيث الأقران الذين يشبهونهم، لقد كان كل السوريين الذين يسكنون الريف والمدينة باستثناء بعض الشوارع الكبيرة التي لا تلمح فيها بشراً يسيرون على أرجلهم، وأمام منازلهم رجال ضخام يلبسون النظارات السوداء السميكة، ينظرون من خلف نظاراتهم إلى الناس دون ملامح.
خالفوا ودفعوا للذي سهل مهمتهم بعض المال، بنوا بيوتاً تشبه بيتهم العتيق، ومات أبوهم وهو يحلم بسقف واحد وأربعة جدران للذين ورطهم في الحياة العارية.
وهكذا.. بصمت أفضل من الدعاء، تستمر الأسطورة السورية في الركض الطويل الطويل نحو حلم الوظيفة التي ستأتي بسقف وأربعة جدران لممارسة نشوة تقود إلى حالمين جدد بصمت أجدى من الدعاء..