يوسف البني يوسف البني

مخاطر حقيقية تواجه الزراعة السورية رفع أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي تهديد للأمن الغذائي

يتميز القطاع الزراعي في سورية بتنوع منتجاته النباتية والحيوانية، التي تشكل وحدة متكاملة قلَّ نظيرها في دولة أخرى، فالمنتجات النباتية تتنوع في 79 صنفاً رئيسياً، إضافة إلى عشرات الأصناف الثانوية، ويزيد إنتاجها السنوي عن 270 مليار ليرة سورية، وتشكل ثلثي إجمالي الإنتاج الزراعي تقريباً، والثلث الباقي تغطيه المنتجات الحيوانية التي تتنوع في 24 صنفاً رئيسياً يبلغ إنتاجها السنوي حوالي 140 مليار ليرة سورية.

القطاع الزراعي هو المنتج الحقيقي للاقتصاد، والمنقذ الوحيد عند تفاقم الأزمات من حولنا، وفيه إنتاج حقيقي للقيمة المضافة، وتشغيل واسع لليد العاملة وتأمين الاكتفاء الذاتي، وله علاقة جدلية متينة مع القطاع الصناعي، حيث يقدم له المواد الأولية (كالقطن والقمح والشوندر....) وبالوقت نفسه يقدم التطور الصناعي مستلزمات التنمية الزراعية (جرارات، وسائل الإنتاج وأدواته، أسمدة ومبيدات....). وإن الهجوم على القطاع الزراعي وتخريبه يعني تخريباً متعمداً وتدميراً للوحدة الوطنية، وتقويضاً لأهم ركائز الأمن الغذائي والوطني، في مخطط مقصود لإضعاف البلاد وإجبارها على التبعية العمياء لمقررات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الخادمين المخلصين للسياسات الإمبريالية والصهيونية العالمية.

جاء قرار رفع الدعم عن الأسمدة كتحدٍ جديد تواجهه الزراعة السورية، وأصاب الفلاحين بكثير من الصدمات والإحباط، فقد ارتفعت أسعار السماد مباشرة بنسب تراوحت بين 100% و350%، بينما كان الفلاحون يعلقون آمالهم على إجراءات تدعم الإنتاج بعد الآثار السلبية لرفع الدعم عن المازوت في مثل هذه الأيام من العام الماضي، إلا أن ضربة رفع الدعم عن السماد كانت أقوى وأخطر على الإنتاج الزراعي، فرفع سعر المازوت زاد الكلفة فقط، أما رفع أسعار الأسمدة فسينعكس على الإنتاج من حيث الكمية والنوعية، وبالتالي سيؤثر على أسعار المنتجات في السوق الداخلية. وجاء قرار رفع الدعم عن الأسمدة ضمن مخطط يهدف إلى محاباة تجار القطاع الخاص على حساب الفلاحين، الذين سيضطرون لشراء الأسمدة بالسعر الذي يفرضه التجار وطمعهم وروحهم الاحتكارية.

هي الحرب إذاً، أعلنها الفريق الاقتصادي على الاقتصاد السوري المنتج، في القطاعين الأساسيين الصناعة والزراعة، فبموازاة المخطط الرامي إلى سحب الدور الرعائي للدولة لكل القطاعات، وهجمات الخصخصة التي تتعرض لها شركات القطاع العام، يواجه القطاع الزراعي سياسة تهدف إلى تدميره رغم ما في ذلك من مخاطر كبيرة على الأمن الغذائي والوطني.

 

خسائر بالملايين قبل الإنتاج

والحبل على الجرار

صدر عن المؤسسة العامة لإكثار البذار الكتاب رقم 138/32/6/2 تاريخ 18/1/2009، المتضمن تحديد سعر بذار البطاطا (كلاس A) بمبلغ 25150 ل.س للطن الواحد، وانتهى الكتاب بملاحظة «ريثما تصدر التسعيرة الرسمية من قبل رئاسة مجلس الوزراء». وسارع مزارعو البطاطا في محافظة درعا لاستجرار احتياجاتهم من البذار لموسم زراعة البطاطا للعروة الربيعية، التي تبدأ في منتصف شهر كانون الثاني، أي بتاريخ 15/1، وتنتهي زراعتها بتاريخ 15/2.

صدر بتاريخ 16/2/2009 كتاب ثان عن المؤسسة العامة لإكثار البذار يتضمن تحديد السعر الرسمي لبذار البطاطا من الصنف نفسه بـ13000 ل.س للطن الواحد، مع ملاحظة تقول: «دون أثر رجعي»، وهذا يدل على أن المؤسسة تعرف تماماً أنها ظلمت الفلاحين، ولكنهم لا يستطيعون استرداد فارق السعر البالغ 12150 ل.س للطن الواحد، فإذا كانت هذه الخسائر الجسيمة قد سجلت حتى قبل بداية زراعة الموسم، فما هي الخسائر والضربات الأخرى التي تلقاها هذا النوع الاستراتيجي الهام من الزراعة، التي تمس الحياة اليومية للمواطن السوري؟ ومن أين سيعوض الفلاح خسارته؟ هل سيتحملها وحده؟ أم سيُحمِّلها على الإنتاج، الذي سيرتفع سعره في السوق الداخلية أضعافاً مضاعفة؟! أسئلة تنتظر الجواب عند جني محصول البطاطا من العروة الربيعية.

كانت زراعة البطاطا قد سجلت بالأساس تراجعاً كبيراً، بسبب المعوقات التي تواجهها الزراعة بشكل عام، وأهمها ارتفاع أسعار المحروقات، الذي أدى إلى تضاعف تكاليف الري، وتُبين إحصائيات وزارة الزراعة أن المساحة المروية المخطط زراعتها بالبطاطا تبلغ حوالي 40 ألف هتكار، لمخطط الإنتاج البالغ حوالي 868 ألف طن، باستخدام كمية البذار المحسن البالغة 22600 طن، ولكن كمية البذار المستجرة من المؤسسة بلغت حوالي 7 آلاف طن فقط، أي ثلث الكمية تقريباً، وتكفي لزراعة 10 ـ 15 ألف هكتار فقط، بمعنى أن الإنتاج لن يتجاوز ثلث الخطة المقررة في أحسن الأحوال، مع ما سيسببه ذلك من قلة العرض في المنتوج، وبالتالي ارتفاع سعره الذي سينعكس سلباً على الحياة المعيشية اليومية للمواطن السوري.

الفلاحون في محافظة درعا أكدوا أنه إذا ما استمرت هذه الحرب المجنونة ضد الفلاح والزراعة السورية، وإذا ما استمرت سياسة تخلي الدولة عن دورها الرعائي، وتسليم رقاب الفلاحين لتُجّار السوق السوداء، مع ارتفاع أسعار المحروقات، فإنه ليس أمامهم سوى التخلي عن «الزراعة المُخسِّرة»، ولن يكونوا قادرين على تنفيذ الخطة الزراعية حتى في حدودها الدنيا، ما يعني تراجع الإنتاج لمختلف المحاصيل، وخاصة الإستراتيجية منها.

 

الزراعات المحمية اعتادت على المخاطر

في المنطقة الساحلية لم يتفاجأ مزارعو الزراعات المحمية بالأضرار الجديدة التي طالت محاصيلهم من زيادة تكاليف الإنتاج بسبب رفع الدعم عن السماد، فقد اعتاد فلاحو الزراعات المحمية على السياسات والخطط الهدامة التي توجهها لهم الحكومة ضربة إثر أخرى. هذا ما أكده لنا الفلاح يوسف الشيخ عيسى حيث قال: «لم نعد ندري ماذا نريد أو بماذا نطالب، فهذا الخد قد اعتاد على اللطم، وسياسات الحكومة عودتنا على القهر والمخاطر التي تواجهها زراعتنا، فليس رفع الدعم عن السماد رغم خطورته على تكاليف الإنتاج هو الهم الأوحد الذي نشكو منه، فقبله رفع الدعم عن المازوت (خرب بيوتنا) وأصبحت تكلفة تدفئة البيوت المحمية تتجاوز أربعة أضعاف، فهل نتحمل أعباء رفع الدعم وحدنا أم نتخلى نهائياً عن الزراعة الاستراتيجية ونتجه إلى الزراعات البديلة؟.. يبدو أن هذا هو هدفهم الأول والأخير، تركنا للزراعة ورحيلنا عن أرضنا».

أما الفلاح خلدون الشماس فقال: «أصبحنا نتوقع خطر التخطيط الزراعي في هذا البلد مع كل مراحل إنتاج مواسمنا، فمن الفلاحة وتكاليفها الباهظة إلى البذار وارتفاع أسعاره رغم عدم ضمان جودته، إلى التسميد الذي نواجه تبعاته في هذه الأيام، وإذا سلم المحصول حتى النهاية وبدأ الإنتاج الحقيقي سدت الحكومة علينا كل المنافذ ومنعتنا من تصدير الفائض من إنتاجنا إلى الأسواق المجاورة، وإذا اقتنعنا ببيع مواسمنا في السوق المحلية فتح التجار علينا باب الاستيراد وضربوا محاصيلنا وقد نضطر إلى بيعها بربع التكلفة كيلا تبقى علفاً للحيوانات، والله هذه سياسات عدوانية مخربة للزراعة ولاقتصاد الوطن»!.

 

 

في المنطقة الشرقية مخاطر مشابهة

في المحافظات الشرقية والجزيرة لم تكن الحال بأفضل من الجنوب، فقد طالت أضرار رفع الدعم عن السماد والمحروقات جميع المحاصيل الزراعية. ورصدت «قاسيون» انعكاسات رفع الدعم عن مستلزمات الإنتاج الزراعي، وآخرها رفع سعر السماد، والتقت بعض الفلاحين من «موحسن» الذين صرحوا لنا بهمومهم والمخاطر التي تتعرض لها الزراعة.

ـ الفلاح عواد الحامد (أبو محمد) قال: «إن رفع سعر السماد دفع الفلاحين للإحجام عن الزراعة، وعدم الالتزام بتنفيذ الخطط الزراعية، ولم يستفد الفلاح من تخفيض سعر المازوت بنسبة 20%، من 25 ل.س إلى 20 ل.س، وتأثير ذلك على أجور الفلاحة والنقل ورش المبيدات وغيرها. كما أن أسعار المحاصيل التي حددتها الدولة، بقيت منخفضة، ولم تعدلها بما يتناسب مع رفع سعر السماد وارتفاع تكاليف الإنتاج الزراعي، وبما أننا بلد زراعي واقتصادنا يعتمد على الزراعة بنسبة كبيرة، يعتبر رفع الدعم عن السماد مؤامرة على الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، والمستهدف أولاً وأخيراً من الفريق الاقتصادي المرتبط بالخارج بسياساته التي يتبعها، هو اقتصاد الوطن». وحول سؤالنا له ما هو الحل؟ وهل صندوق الدعم الزراعي هو السبيل للإنقاذ؟ قال: «الحل بإعادة الدعم لمستلزمات الإنتاج الزراعي، وخاصة المازوت والسماد، والحفاظ على المنجزات والمكتسبات التي تحققت للقطاع الزراعي على مدى عقود طويلة، ومحاسبة الفاسدين الذين تسببوا بالضرر لاقتصادنا الوطني».

ـ أما الفلاح خلف الحمود (أبو ياسر) فقد أكد أن «رفع سعر السماد سيكون من أولى نتائجه تدهور الوضع المعيشي للفلاحين، وتدهور الاقتصاد الوطني بشكل عام، وستزيد نسبة الفقراء مما سيؤدي إلى اضطرابات في الوضع الاجتماعي، وتعميق جذور التخلف وازدياد البطالة، واتساع انتشار الجريمة، وتشجيع الهجرة الجماعية، وعدم تنفيذ الخطط الزراعية وبالتالي تراجع وتدهور الإنتاج، وتقليص مساحة الأراضي المزروعة والتصحر ولا حل إلا بعودة الدعم».

 

الأهمية الكبرى للزراعة

والمخاطر التي تواجهها

أزمة الغذاء التي يشهدها العالم، دفعت الزراعة إلى واجهة الاهتمامات، باعتبارها الحل الأمثل لمواجهة التحديات المتعلقة بالأمن الغذائي. ولكن الزراعة في سورية تواجه حالياً الكثير من التحديات والمخاطر والمعوقات. فإضافة إلى السياسات الهدّامة، متمثلة في رفع الدعم عن المحروقات والسماد، والتلاعب بالبذار والأسعار النهائية للمنتج، تعاني الزراعة من تراجع المساحات المزروعة، نتيجة التوسع في المشاريع السكنية والمنشآت الصناعية، إلى جانب التبوير المقصود للأراضي، أو الاستثمار السيئ لها، وعدم اتخاذ الإجراءات العملية لحمايتها من التصحر والانجراف، وعدم تعويضها بالعناصر المعدنية الأساسية بسبب الزراعات المجهدة. كما توجد مساحات كبيرة تحت اسم أملاك دولة غير مستثمرة حتى الآن.

 

المطلوب دور فعال لحماية الزراعة

مرة أخرى نؤكد أن الزراعة هي عصب الحياة الرئيسي في مواجهة الأزمات، لذلك فعلى الحكومة التراجع عن سياسة التخلي عن دورها الرعائي، واتخاذ الإجراءات والاحتياطات الكفيلة بتدعيم الأمن الوطني والغذائي، واعتماد سياسات سعرية وتسويقية ودعم مشجع للاستمرار في الإنتاج كماً ونوعاً، وذلك بالتوسع قي إقامة السدود لمختلف الأغراض الزراعية والسياحية، والتوسع في تعامل الزراعات الموسمية وتشجيعها للحفاظ على توفرها في السوق المحلية في أوانها، ولإيجاد فرص عمل زراعية تمتص جزءاً من البطالة، وعلى الحكومة توفير القروض الزراعية وقروض الري الحديث، بمدة زمنية مريحة للفلاحين، والعمل على إنجاز المعاملات بالسرعة القصوى. كما يجب إتباع سياسات حمائية والابتعاد عن الممارسات ذات التأثير السلبي على المحاصيل، مثل استيراد المنتوجات في أوان إنتاجها محلياً، ويجب التراجع عن رفع الدعم عن مستلزمات الإنتاج، لأنه دون الدعم لا يمكن إبقاء الفلاحين في أراضيهم، لأن الزراعة هي نمط حياة بشرية، أكثر منها نمط نشاط اقتصادي، رغم أهمية هذه الناحية، كما أن الدعم يضمن استقرار السوق ويحميها من المنافسة الخارجية والاحتكار. كما يجب إتباع سياسة سعرية عادلة للمنتجات الإستراتيجية، بحيث تمتص الزيادة في سعر الأسمدة، ويجب الاهتمام بالبنية التحتية الزراعية والاستثمار الحدي للمساحات القابلة للزراعة، ووضع حد للتعديات الجائرة على الأراضي الزراعية.

يجب وقف سياسات رفع الدعم والتراجع عنها، ويجب استعادة دور الدولة الرعائي لجميع القطاعات الحيوية الأساسية، المسؤولة عن توفير الأمن الغذائي، ومنها دعم الزراعة ومستلزمات الإنتاج، والفلاح الذي يضمن سيادتنا وأمننا، وفي ذلك ضمان لكرامة الوطن والمواطن...

آخر تعديل على الأربعاء, 17 آب/أغسطس 2016 01:41