مطبات خارج الخارطة

من يرسمنا، ومن يقرر إن كنا داخل الخارطة أو خارجها، خارج الحسابات التي تجريها ما تعرف بالجهات الرسمية أو الحكومية، من يقرر مواطنتنا، انتماءاتنا، وأحقيتنا في أن نكون داخل الخريطة أو على أطرافها، في جوهرها أو خارجها.

خارج التنظيم، على أطراف المخطط التنظيمي الذي تنجزه الدوائر الإقليمية في المحافظات كل عشر سنوات... ولدنا، فيما يعرف بمناطق السكن العشوائي، أحياء المخالفات.. عشنا، غرباء داخل ضوضائها وضجيجها، وصياحات الباعة والمتسولين، مطاردة لقمة  العيش، الأرصفة، حول الكراجات، الوجوه الهارعة إلى الدوام على شكل وظائف، المرميون على حواف الطرقات كعاطلين عن العمل، رقماً في مداخلات الحكومة، في الدراسات، المقالات، المسوح الاجتماعية.

خارج التنظيم، الخارطة.. التي يرسمها أناس مثلنا ويحملون مثلنا أرقاماً وطنية، ويشبهوننا في القامة والبشرة حتى وإن كانت قاماتنا منحنية وبشراتنا كالحة ومغبرة، خارجها تميزنا بكوننا لا نشبه من في الداخل، ربما لأننا جئنا من بعيد، أو لم نفكر في امتلاك قطعة أرض داخل المخطط، أو شقة في بناء شاهق، أو لأننا نحب أن نرى السماء بعد منتصف الليل، ونعد نجومها وخرافها مأخوذين بخرافة قديمة، أو كوننا نحب الألوان على حقيقتها، صافية وحقيقية ونكره الرمادي واللون المتسخ بالدخان والتلوث، أو أن لوثة انتقلت لنا بالوراثة عن الانزراع في المكان كشجرة (كينا) قديمة هتكت ستر الإسفلت، وانغرست عنوة باحثة عن تراب رطب.

هانحن هنا خارج تنظيم البشر النائمين في دفء مخاتل، نتراكم فوق بعضنا كنبات طفيلي، نعتاش على مخلفاتنا، مخالفاتنا، نبيع ونشتري من الدكاكين التي- ما زالت رائحة (الكمون) والزعتر، واليانسون- تفوح منها من بعيد، نأكل ونشرب كبدائيين، نحب البرغل وإن صار غالياً، وإن استوردناه، أو أضعناه، ونرتشف ما تبقى من ماء البندورة في صحن قطعته أيادٍ خشنة ولكنها محبة، ونتوق إلى نكهات فقدناها في عصر البيت الزراعي البلاستيكي.

لكننا.. خارج التنظيم الجميل، تداهمنا خضراوات الصرف الصحي، المياه الملوثة، والتي لم يفكروا بعد بتعبئتها لنا على شكل عبوات، نمارس الغيظ على طريقتنا في الكتمان التي توصلنا سريعاً إلى المشافي العامة مصابين بالجلطة، الأدهى أن نتائج التحليل الطبي تتحدث عن نسب مرتفعة في أجسادنا المريضة من الكولسترول.

خارج الخارطة وجدنا أنفسنا، ولم نقرر ذلك، ولم يتملكنا الطموح للتسلل إلى التنظيم الجميل، لكنهم مع ذلك يرون فينا فائضاً يرمي مخلفاتها في دروب أناقتهم، عراة في شوارعهم العريضة، ويرون في طرقاتنا الموحلة واحة خلقت لنا وحدنا، وفي مياهنا- التي تنضب بسبب غسيل سياراتهم، ومسابحهم، ومزارعهم- مؤامرة من الطبيعة معنا ضدهم، وأن الصهاريج التي باتت مصدر مائنا نعمة.

خارجه.. نحن الأغلبية الفائضة، الأغلبية التي تتراكم بيوتها متكئة على بعضها من التوالد، التوالد الذي تفرضه الطبيعة والقانون، تجار المدينة لم يعد يكفيهم التلذذ بنا في أسواقهم وبضاعتهم، حمى التوسع شردت بناظرهم إلينا، حمى العقارات التي تنهض في الريف عكس كل العالم الذي يشكو من فجيعة العقارات، مع ذلك تنهض في كل دقيقة شاهقة جديدة ونخسر قطعة أرض خضراء، ثم نعود إلى ما بعناه من اخضرار لنشتري به قطعة اسمنت ميتة، وندفع ما كنا نظن أنه الخلاص من الجوع الذي ساد علينا لأن الطبيعة لم تعد تتآمر معنا.

لكننا.. خارج التنظيم ما زلنا نعرف وجوه نساء لا تشبه الدمى، وأيادي متعرقة من التعب الحلال، وأمهات رؤومات، وآباء يعلمون أبناءهم أناشيد ليست على شكل رسائل الجوال، أناشيد في أرشيف الحب المنقوش على قوس قزح في رشة مطر هاربة، جدات غير كسولات، وأبناء يمدون رؤوسهم أعلى من شاهقات التنظيم، ويطمحون لمؤامرة مع الطبيعة.. والمطر، لا يجدون صالة أفراح ليتزوجوا، لكن بيوتهم الخارجة عن التنظيم لها سطوح دافئة، ومحبون، سطوح ليست من قرميد، لكنها متكئة على بعضها كعشاق أتوا من الذاكرة، وأداروا ظهورهم للتنظيم، يدندنون أغنية خافتة في وقت تقنين الكهرباء.. عن الخريطة.. وطن من حب، لا تهزمه المخططات التنظيمية التي لم تُصدّق بعد.

آخر تعديل على الثلاثاء, 02 آب/أغسطس 2016 12:46