محمد سلوم - طرطوس محمد سلوم - طرطوس

طرطوس القديمة.. حضارة تحتضر!

برعت البشرية منذ نشوئها بالفنون والجماليات، وتميزت مجتمعاتها بالميل إلى التنظيم والتخطيط، فعندما تعبر مداخل مدينة طرطوس القديمة، تشعر وكأنك تدخل التاريخ، سواء من خلال بواباتها أو السور الفينيقي القديم الذي يحيط بالمدينة القديمة، والذي ظل صامداً عبر آلاف السنين في وجه كل الغزوات التي مرت عبر الزمن، لكنه لم يستطع، رغم جبروته، حماية نفسه أو مدينته من الإهمال واللامبالاة، من خلال النشاط البشري المتزايد ومن جهة أخرى غياب المسؤولية والرؤيا والثقافة التراثية لدى الجهات المعنية وخاصة من بيدهم القرار في المحافظة.

تم تسجيل مدينة طرطوس القديمة ضمن الأبنية والمواقع الأثرية في سورية بالقرار رقم 8 لعام 1959، زمن ضمنها الكاتدرائية القديمة والحصن القديم وسور المدينة، وبموجب قرار لاحق في عام 1999 تم منع أية أعمال ترميم أو هدم أو بناء إضافة، دون ترخيص مسبق من السلطات الأثرية، وصدر قرار عام 1988 شكلت بموجبه لجنة حماية المدينة القديمة، ثم تم تعديله فيما بعد في عامي 1999 و2004. 

النشاط البشري

عبر التاريخ المدينة القديمة هي مركز المدينة، بل وفي مرحلة معينة كانت هي المدينة بحد ذاتها، ونتيجة للنشاط الاجتماعي والتجاري وزيادة عدد السكان، اضطر المواطنون إلى إشادة الأبنية الجديدة فوق أماكن سكنهم القديم، بمواد من «البلوك الأسمنتي» والكثير منها دون أعمدة، ومنهم من انشأ طابقين، وقسمت مع مرور الزمن إلى أسقف صغيرة جداً، وأصبحت محشوة مكتظة بالناس، تقطنها عشرات العائلات، وكثير من السكان أزال قسماً من الجدران القديمة وأضاف عليها الجديد، وأزالوا قسماً كبيراً من الأرض والمنجور الحجري والجدران الرملية، ووضعوا مكانها الحديث العشوائي. ولعدم إمكانية القيام بالخدمات اللازمة من الصرف الصحي والمياه والكهرباء، بشكل حضاري ولائق، تجد أسلاك الكهرباء مدلاة بين البيوت بشكل خطير، ومياه الصرف الصحي تخرج أحياناً من هذه الزاوية أو تلك، عدا الروائح المنتشرة في كل مكان، ما خلق تشققات في معظم الجدران بفعل عوامل الزمن وملوحة البحر والإنشاء السيئ للبيوت، الذي لم يراعِ صفة واحدة من مواصفات السكن البشري.

ولعدم تنفيذ القرارات من الجهات المسؤولة، ولعدم السماح للمواطنين بالقيام بأي عمل من أعمال الإنشاء والترميم، ولعدم قيام هذه الجهات وخاصة البلدية بأية أعمال ترميم أو تدعيم أو الحفاظ على نظافة وجمالية المدينة، تفاقم الوضع من سيىء إلى أسوأ، وخلق نوعاً من التلوث البصري يندر مثيله  في العالم. 

المخطط التنظيمي

الملفت للنظر أن كل رؤساء البلديات المتعاقبة هم من أبناء هذا الحي القديم، ما عدا رئيس البلدية الحالي فهو ابن أرواد، البلدة التوأم للتراث نفسه والتاريخ والقوانين والمعاناة والإهمال نفسها، وعلى حد قول احد المواطنين هل لهذه الدرجة ينسلخ المسؤول عن جذوره وأهله ومحيطه، ضارباً عرض الحائط بمآسي المواطنين وحقوقهم؟

الأمر الآخر الملفت للنظر أن معظم شباب مدينة طرطوس وأرواد، الذين يعانون مما ذكرنا، يعملون في البحر متنقلين بين معظم دول العالم المطلة على البحر، ويتحدثون عن الحالة الفريدة لطرطوس بين معظم المدن القديمة المطلة على البحر، بتلوثها البصري والبيئي، وحتى المخطط التنظيمي الذي كأنه غضب سماوي لم تضعه كفاءات فنية موجودة على ارض الواقع، ولم يراعِ الواقع الجمالي للتواصل بين الأبنية القديمة والحديثة، فقرار التسجيل الأساسي اعتمد المخطط التنظيمي القائم كمنشآت، ولم يراع علاقتها بمحيطها، ما أدى لظهور شوارع تنظيمية محيطة ومخترقة لبعض أجزاء المدينة. وتمت إزالة بعض الأبنية القديمة، وظهرت شوارع بأبعاد تنظيمية جديدة. والسؤال: لماذا تريد أن تدخل السيارات إلى أبواب البيوت القديمة؟! أليس هناك مدن قديمة حافظت على جماليتها ولا تدخلها السيارات؟!! 

صرخات المواطنين

عندما تتجول في أزقة المدينة القديمة، وأنت في حيرة بين عَظَمة الماضي وبؤس الحاضر، حيث البيوت المتهالكة والآيلة للسقوط، لا تستطيع أن تصدق أن في داخلها بشراً من لحم ودم. وتصلح لأن تكون لقطات لفيلم سينمائي تاريخي، يتحدث عن نهاية حرب قديمة عبر العصور، أو منطقة قد أصابها زلزال. وعندما كنت أستمع إلى صرخات السيد خالد خضر (أبو وائل)، مجالساً أخاه المقعد، ضمن بيته الذي تهدم جزء منه ودعمت البلدية جزءاً آخر، أصابني الهلع والخوف، أبو وائل يحدثني عن لحظة سقوط بيته، حيث كان أفراد العائلة كلهم في الخارج، ويحمد الله كيف نجاه القدر مع عائلته.

قدم لي السيد خالد مجموعة من الوثائق التي تثبت حقه باستلام منزل بديل ولم يستلمه حتى الآن، وهو مستأجر مع عائلته وأخيه المقعد الذي ينزوي تحت سقف شبه منهار. وقدم لنا نسخة من محضر لجنة رقم 7258، تاريخ 26/4/2005. والطلب المقدم من السيد خالد خضر شاغل العقار /1541/ الذي يطلب فيه تخصيصه بشقة سكنية، وبعد الكشف من لجنة المدينة القديمة تبين أن البناء المؤلف من طابقين قد انهار جزء من الطابق الثاني، وسقف غرفة من الطابق الأول، أما بقية الجدران والأسقف فهي في حالة انهيار إنشائي نتيجة اهترائها ومن الضروري إخلاء الشاغلين حرصا على السلامة العامة، وبسبب حدوث الانهيارات على الجوار ترى اللجنة ضرورة توجيه إنذار إلى السيد خالد خضر بضرورة تسديد مبلغ /50000/ ل.س كدفعة أولى لتخصيصه بشقة سكنية، ومن ثم إخلائه من شاغليه بالسرعة الممكنة. وكان رئيس مجلس المدينة السابق هو رئيس هذه اللجنة. والإنذار وُجِّه إلى السيد خالد لكن البيت لم يسلم له.

وجاء في كتاب موجه حديثا منذ أسبوع، من المهندسة ماري يازجي رئيس دائرة المدينة القديمة إلى رئيس مجلس مدينة طرطوس: «بعد دراسة محاضر اللجان المشكلة للسلامة العامة في المدينة القديمة ومدينة طرطوس ومحافظة طرطوس، تبين أن المنازل الأخطر إنشائياً، والتي تهدد الشاغلين والسلامة العامة بالخطر هي كما يلي:

ـ البناء على العقار /1541/ ويشغله عبد الله خضر، الشقيق المقعد لخالد خضر، سقف خشبي مهترئ جداً، ومتقوس وبوضع خطر إنشائياً، وقد انهار جزء من سقف غرفة فيه، وباقي السقف في حالة انهيار، والطابق الثاني من البناء مؤلف من جدران معلقة بالهواء وآيلة للسقوط، وحجارتها تتساقط على الأبنية المجاورة، والبناء بشكل عام خطر على الشاغل والسلامة العامة والجوار.

ـ وقد ذكرت المهندسة ماري في المحضر عشرين عقاراً على غرار العقار المذكور:

1- البناء على العقار رقم /1689/ وتشغله عائلة عبد الله لطش.

2- البناء على العقار رقم /1790/ وتشغله عائلة رجب خيرو.

3- البناء على العقار رقم /1534/ وتشغله عائلة طلال شلق وعائلة جميل شلق، وسقف هذا البناء يتعرض لتساقط دائم من حجارة جدران الطابق الثاني في العقار المجاور على العقار /1541/ من الشمال، وبارتفاع ثمانية أمتار، ما يشكل خطورة كبيرة على البناء، ويعرض الشاغلين للخطر.

4- البناء على العقار رقم /1541/ ويشغله عبد الله خضر.

5- البناء على العقار رقم /1530/ وتشغله عائلة سليم العال، والطابق الأول تشغله عائلة محمد مصطفى العال، والبناء خطر على الشاغلين وآيل للسقوط، وخطر على السلامة العامة.

6- البناء على العقار رقم /1707/ ويشغله في الطابق الأرضي علي شحيدة الكردي.

7- البناء على العقار رقم /1599/ ويشغله وسام شقرا وأخوته، وهو غير صالح للسكن بوجود ثلاث عائلات، ما يجعل الوضع الاجتماعي سيئاً جداً فيه.

8- البناء على العقار رقم /1679/ ويشغله بادر أحمد.

9- البناء على العقار رقم /1404/ وتشغله عائلة خديجة زين.

10- البناء على العقار رقم /1679/ وتشغله عائلة إبراهيم دياب.

11- البناء على العقار رقم /1791/ وتشغله عائلة ثناء شلق وعائلة عائدة شلق.

12- البناء على العقار رقم /1805/ وتشغله عائلة مصطفى حلومي.

13- البناء على العقار رقم /1679/ وتشغله عائلة أحمد مرقبي.

14- البناء على العقار رقم /1443/ ويشغله سامي الشيخ.

15- البناء على العقار رقم /1731/ وتشغله عائلة فهد لطش، وهو بوضع سيء إنشائياً حيث يرتكز على جوائز حاملة بوضع خطر إنشائياً، وحديد التسلح فيها ظاهر، والبناء يعاني من رطوبة عالية.

16- البناء على العقار رقم /1798/ ويشغله نبيل خليفة.

17- البناء على العقار رقم /1417/ وهو مخالف للوصف العقاري ولا يمكن ترميمه.

18- البناء على العقار رقم /1696/ ويشغله عدنان ريحاوي.

19- البناء على العقار رقم /1656/ ويشغله محمد حمزة، جدرانه حجر رملي، سقفه بيتوني سيء جداً، مهدد بالانهيار كما حدث في الغرفة الوسطى حيث انهار جزء من السقف.

20- البناء على العقار رقم /1656/ وتشغله عائلة هشام حمزة.

إن «قاسيون» إذ تنشر أرقام هذه العقارات لاهتمامها بالسلامة العامة، وحرصها على أمن المواطنين وإبعادهم عن الخطر، راجين الإطلاع وعرض الموضوع على المكتب التنفيذي لمجلس المدينة، لاتخاذ القرار بالموافقة على تخصيص شاغلي هذه الأبنية بمنازل بديلة، من المنازل المخصصة للشارع التنظيمي، في الشريحة الانتقالية، وذلك حفاظا على سلامة الشاغلين والسلامة العامة. 

لقاءات مع المواطنين

في جو لا يخلو من التوتر والهم الظاهر في عيونهم الحزينة ووجوههم الشاحبة، التقت «قاسيون» بعض المواطنين من أصحاب البيوت المتضررة، بحضور الرفيق رئيف بدور، عضو مجلس محافظة طرطوس (الذي قام بتقديم مذكرة إلى السيد المحافظ في اجتماع مجلس المحافظة).

منهم من شرح لنا معاناته الطويلة على أبواب الجهات المسؤولة متأبطاً مجموعة من الوثائق التي تثبت مدى خطورة منزله، ومدى أحقيته في منزل جديد، ومنهم من شرح لنا كيف أن بعض المستأجرين من جيرانهم، وهم من خارج مدينة طرطوس، قد حصلوا على بيوت. وأصحاب البيوت المالكين، لم يُخصَّصوا بمنزل جديد، وإن بعض هؤلاء قد أجّروا بيوتهم الجديدة، وعادوا للسكن في بيوتهم القديمة، وحدثنا مواطن آخر بأن المشكلة ليست وليدة اليوم، وقد زارتنا لجان متعددة وصحف وتلفزيون وأجرَوا لقاءات مع المواطنين وصوروا الأضرار لكن يبدو ما من مجيب.

مواطن آخر شرح لنا كيف ضاعت الإضبارة، وشكونا إلى التفتيش، وبعد فترة وجدت الإضبارة، وقالوا إننا رفضنا التبليغ، وهذا غير صحيح.

أحد المواطنين كاد يبكي من حاله، متحدثا لنا بطريقة متوترة: «لقد ذهبنا إلى السيد المحافظ السابق، وأمين الفرع وكل الجهات المسؤولة، والله لو حدثت هزة صغيرة وبسيطة جداً، سينهار علينا البيت، وكلما قصف الرعد في الشتاء يستيقظ أولادي مذعورين، وأدعي مع زوجتي: الله ينجينا!!

منذ سنتين وضعت 85 ألف ليرة ترميم وكأنني رميتها في البحر، وأصبحت سماكة السقف أكثر من 35 سم ومعظم أولادنا أصيبوا بالربو وأغراض بيتنا أصابها العفن والصدأ، ويوجد في بيتنا جهاز أوكسجين لحالات الربو لأحد أولادي. والله لقد يئسنا وخطر لنا أن نذهب مع عائلاتنا لنطرق كل الأبواب حتى لو اضطررنا لمقابلة السيد رئيس الجمهورية.

كل من قابلناهم يشكون الوضع المعيشي المثقل عليهم، حيث يُعتبَرون من فقراء المدينة، والبساطة والطيبة الاجتماعية التي تميزهم. وأسوأ صفة تلازم هذا الحي هي الوضع التعليمي المتدني. ويحوي كل منزل بداخله عائلة أو عائلتين وسطياً، وكل عائلة مكونة من ستة أشخاص.

إن مدينة طرطوس القديمة لحقت بها تشوهات وتخريب كبير، والمشكلات الأكثر أهمية هي: المشكلة الاجتماعية الاقتصادية، الكثافة العالية للسكان، فقر الناس، المستوى الثقافي المتدني، المشكلات الصحية، وسوء الصرف الصحي.. وكل ذلك يسير من سيئ إلى أسوأ...

آخر تعديل على الإثنين, 01 آب/أغسطس 2016 13:40