يوسف البني يوسف البني

رفع تعرفة الكشف الطبي بين مد وجزر.. ماذا بعد التهاون بصحة المواطنين؟

مع إطلالة العام الأخير من سنوات الخطة الخمسية العاشرة بدأت تتسارع البرامج والقرارات الداعية للقضاء على دور الدولة الرعائي لمواطنيها، وكأن البعض المتلبرل داخل الحكومة وخارجها على سباق مع الزمن لتسجيل أكبر الخسائر الممكنة مما تبقى من كرامة للوطن والمواطن وحقه في العيش والتمتع بالحماية والرعاية والدعم الذي أصبح حقاً مكتسباً مشروعاً على مر السنين التي قدم فيها المواطنون كافة ضرائبهم والتزاماتهم بدعم وحماية هذا الوطن.
فقد أثار القرار التنظيمي رقم 31 الصادر عن وزير الصحة في 7/10/2009، المتعلق برفع تعرفة أجور الكشف الطبي بنسب تتراوح بين 50% وحتى 150%، موجة متناقضة من المواقف بين مؤيد ومستنكر، وبين راضٍِ وشديد السخط والتذمر. فقد تم بموجب هذا القرار تعديل فقرات القرار التنظيمي رقم 79 لعام 2004، وجاء التعديل كما يلي:

 قرار تنظيمي رقم 31 / ت
وزير الصحة: بناء على أحكام المراسيم التشريعية والقرارات التنظيمية المتعلقة، وعلى اقتراح اللجنة المشتركة بمحضر الاجتماع المنعقد في 18/6/2009، وعلى اقتراح معاون وزير الصحة، يقرر ما يلي:
مادة 1 ـ تعدل الفقرات ( أ ـ ب ـ ج ) من المادة الأولى من القرار التنظيمي رقم 79/ت تاريخ 15/12/2004 بحيث تصبح على الشكل التالي:
أ ـ أجور الكشف الطبي للطبيب العام الممارس لمن له أقل من عشر سنوات ممارسة للمهنة 350 ل.س حد أدنى، 500 ل.س حد أعلى (وقد كانت 200 ل.س).
أجور الكشف الطبي للطبيب العام الممارس لمن له أكثر من عشر سنوات ممارسة للمهنة 500 ل.س حد أدنى، 700 ل.س حد أعلى (وقد كانت 300 ل.س)
ب ـ أجور الكشف الطبي للطبيب الاختصاصي لمن له أقل من عشر سنوات ممارسة للمهنة 500 ل.س حد أدنى، 800 ل.س حد أعلى ( وقد كانت 350 ل.س)
أجور الكشف الطبي للطبيب الاختصاصي لمن له أكثر من عشر سنوات ممارسة للمهنة 800 ل.س حد أدنى، 1000 ل.س حد أعلى (وقد كانت 500 ل.س)
ج ـ الاستشارة الطبية المرافقة والمتضمنة دراسة ملف لكتابة تقرير عن الوضع الصحي 1500 ل.س (وقد كانت 1000 ل.س)
مادة 2 ـ ينشر هذا القرار التنظيمي ويبلغ من يلزم لتنفيذه ويعمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.
ومن خلال المقارنة بين القرارين نجد أن زيادة تعرفة الطبيب العام لمن خبرته تقل عن عشر سنوات ارتفع حدها الأعلى من 200 ل.س إلى 500 ل.س، ولمن أمضى أكثر من عشر سنوات ارتفعت من 300 ل.س إلى 700 ل.س أي بنسبة زيادة 150■.
والكشف الطبي الاختصاصي لمن خبرته تقل عن عشر سنوات ارتفعت تعرفته من 350 ل.س إلى 800 ل.س، ولمن خبرته تزيد عن عشر سنوات ارتفعت من 500 ل.س إلى 1000 ل.س وبنسبة زيادة 100■.
كما ارتفعت تعرفة الاستشارة الطبية المرافقة المتضمنة دراسة ملف لكتابة تقرير عن الوضع الصحي من 1000 ل.س إلى 1500 ل.س وبنسبة زيادة 50■.

ردود فعل
تفاوتت الآراء والمواقف حول هذا القرار، وظهرت للأسف عند بعض النفوس روح التحكم والتجارة بهذه المهنة الإنسانية التي تحاكي المشاعر والضمائر قبل كل شيء. وقد كان لقاسيون لقاءات مع بعض الأطباء وبعض المرضى في عيادات تخصصية وعامة، تكونت من خلالها هذه الآراء:
ـ المريض محمد.ع الذي كان في إحدى العيادات الخاصة بأمراض الكلية والمجاري البولية والتناسلية قال: «أنا عامل على باب الله، يوم آكل وعشرة أيام أجوع، فلا الدولة أمنت لي العمل الذي يحمي من التشرد ولا هي أمنت لنا العلاج بتكاليف معقولة تتناسب مع وضع الفقراء أمثالي الذين يشكلون أكثر من 90% من أبناء سورية، وإن رفع تسعيرة الكشف للضعف مرده للجشع والطمع لدى بعض الأطباء الذين حولوا هذه المهنة الإنسانية إلى تجارة، فهم يتاجرون بحياة الناس وآلامهم للربح السريع، كي يشتروا الفيلات والسيارات».
ـ المريض حسان ملاعب مريض القلب المزمن يعاني منذ أكثر من عشر سنوات من إشكالات قلبية وما من علاج له سوى عملية القلب المفتوح، فقال: «كان عندي أمل أن أخضع للعملية، فقد بعت قطعة أرض لوالدي وأمنت قسماً من المبلغ المطلوب للعملية، ولكن في زيارتي الأخيرة للطبيب فوجئت بأن التكاليف قد تضاعفت وأنني مضطر لتأجيل العملية التي ربما قد أموت قبل أن أجريها، وأنني مضطر لبيع قطعة أرض لأقاربنا، أو ليس لنا سوى جمع المبلغ بالتسول، فهكذا تريدنا الحكومة أن نتسول كي نحصل على العلاج».
 
نموذجان من الأطباء... للمقارنة
حدثنا أحد المرضى وقد كان خارجاً من عيادة الطبيب الجراح وهو يتلوى من الألم... والحسرة، فقال: «لقد أجرى لي هذا الطبيب عملية جراحية في مشفى عام، وقد استلزمت العملية خياطة الجرح بست قطب، وقال لي راجعني في العيادة لفك القطب، وحينما جئت إليه في العيادة سألني كم معك من النقود؟ فقلت له حيلتي وحولي 400 ل.س فقال إذاً نفكُّ الآن أربع قطب وحينما تحضر 200 ل.س غيرها نفك القطب الباقية. هناك أناس لا يخافون الله ولا يعرفون الضمير وقد أصبحوا أطباء، وإن زيادة أجور الأطباء تجعلهم يتحكمون أكثر فأكثر، ومثل هذا الطبيب يتمنى أن تسمح له التسعيرة بقبض خمسة آلاف ليرة على الفحصية وليس فقط ألف ليرة».
نموذج آخر من الأطباء الذين حافظوا على قسم أبقراط حدثتنا عنه والدة أحد المرضى الذين أجريت لهم عملية داخلية حساسة وخطيرة، وقد تمت العملية بنجاح على يد أحد الأطباء، وقد شاهد المريض صدفة وليس هو مريضه الذي وقف على علاجه. قالت لنا الوالدة: كان أحد الأطباء قد درس الصور الشعاعية والتحاليل، ودرس حالة ولدي بالتفصيل بعد عدة مراجعات، وقرر له العملية ولكنه طلب مبلغاً كبيراً من المال لم يكن بحوزتنا فزوجي فلاح ينتظر الفرج في كل موسم، وكنت قد خبأت أسوارتين من الذهب لليالي السوداء، وحين طلب الطبيب المبلغ الكبير اضطررت إلى بيعها وجلب المبلغ في يوم العملية المقرر ولكن الطبيب لم يحضر، وبقيت أنا وابني أمام العيادة ننتظر حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً، وإذا بطبيب آخر في المبنى يغلق عيادته ويستغرب انتظارنا أمام عيادة زميله، فقال ما بك يا خالة؟ فقلت له حالة ولدي وموضوع العملية، فأخذ التحاليل والصور وفتح العيادة ودرسها، ويقول الحمد لله موضوع العملية بسيط جداً (كي لا يخيفني) وأنا مستعد لإجراء العملية لولدك غداً، ولكن لا أستلم النقود وأفضل أن تحضري لي الإسوارتين اللتين بعتيهما، وفي اليوم التالي دخل ولدي إلى العملية وذهبت أنا إلى الشخص الذي بعته الإسوارتين وأخبرته أن ابني تحت شِدة وهو يخضع لعملية واحتاج لاستردادهما، فرقَّ قلبه وأعادهما إلي، وحينما وصلت إلى المشفى وجدت ابني قد خرج من غرفة العمليات وأن العملية نجحت 100%، وذهبت إلى الطبيب لأعطيه الإسوارتين، فأخذهما وألبسني إياهما وقال: لا يوجد في الدنيا أحق منك بلبسهما، أنت التي تضحين بكل غالٍ من أجل سلامة ولدك».
 
تداعيات سريعة.. والحكومة تتدخل
من المؤكد أن ليس كل الأطباء سيعملون وفق التعرفة الجديدة، وقد أعرب الكثير من الأطباء الذين التقيناهم عن الاستياء منها لأنها لا تراعي الوضع المعيشي للمواطنين، بل إن هناك أطباء يطالبون بتخفيض الحد الأدنى للتعرفة لأنهم ملزمون بإتباعها أو يتعرضون للمساءلة القانونية إذا خرقوها، وهم يعلمون أنه حتى الحد الأدنى مرهق لكثير من المرضى والمحتاجين. وقد تنبّه مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة إلى خطورة هذه التعرفة وتأثيرها على شرائح المجتمع كافة، فقرر توجيه وزارة الصحة باعتماد أجور الحد الأعلى للتعرفة الطبية بزيادة تتراوح بين 40% و 50% عن تعرفة 2004، وتنخفض عن التعرفة الجديدة المقررة بنسب تتراوح بين 30 ـ 50%، وقد نقلت الزميلة «تشرين» عن وزير الصحة أنه سيتم العمل بالتعرفة التي حددها مجلس الوزراء فوراً.
 ولكن هكذا دأب هذه الحكومة «العتيدة»، تلعب دائماً في الوقت الضائع والمستقطع، وتمرر قراراتها الليبرالية في غمرة انشغال المواطنين بموضوع حيوي حساس وهام، كموضوع طريقة الحصول على دعم المحروقات المُذِلة والمُهينة، وقضاء ساعات طويلة في طوابير الفقراء المتزاحمين أمام كوة استلام الشيكات.