أزمة المياه في سلمية.. «دق المي وهيي مي»
يوماً إثر يوم تتفاقم معاناة أهالي مدينة سلمية، تلك المدينة القابعة على تخوم الصحراء، حيث تلعب الظروف البيئية القاسية والسياسات الحكومية غير الرشيدة دورها في استمرار فصول مأساة الاحتضار عطشاً على مرأى ومسمع المعنيين، في ظل غياب أية بادرة لرغبة حقيقية لحل الأزمة وتخفيف المعاناة.
في مفارقة ساخرة يقول البعض – وقد لا يكون القول أكثر من نسج خيال شعبي – أن اسم المدينة جاء من كونها تحتوي على سيول من المياه، وأن الاسم حور لغوياً حتى غدا « سيل مية» ومن ثم «سلمية»، وبغض النظر عن الاسم وأصله فإنه مما لا شك فيه هو أنه لا سيل فيها اليوم ولا حتى ساقية، فالمدينة اعتادت على أن تكون عطشى، حتى غدا التعامل مع شح المياه فناً يتقنه أهل المنطقة، إذ تعلموا ألا يهدروا قطرةً واحدة، وأن يعالجوا المياه التي لا يثقون بمصدرها بأقراص الكلور المخصصة لهذا الغرض، وأن يميزوا بين المياه الصالحة وغير الصالحة للشرب، وألا يصدقوا وعود المسؤولين حين يؤكدون على أن المشكلة ستحل عما قريب.
يحكى أن
الحكاية بدأت في زمان ومكان مختلفين، لكن تداعياتها استمرت حتى اليوم، إذ يروي المسنون من أهل المدينة أن سلمية كانت منطقة خصبة تجود أراضيها بالمياه الجوفية والسيول المتشكلة عقب المواسم الماطرة، لكن انخفاض منسوب الأمطار في العقود الماضية قاد إلى تراجع المياه الجوفية، كما يروي أهل المنطقة أن تجفيف سهل الغاب والذي تم الانتهاء منه في نهاية خمسينات القرن الماضي أيام الوحدة السورية المصرية كان سبباً رئيسياً في تراجع خصوبة المنطقة الوسطى من سورية.
بدايات الأزمة
منذ نيسان عام 1952 قامت مؤسسة إدارة مشروع الغاب بإجراء الدراسات اللازمة لتجفيف المستنقع، وخلصت هذه الدراسات إلى كسر العتبة البازلتية التي كانت تشكل سداً طبيعياً قرب قرية القرقور في الناحية الشمالية من منطقة الغاب، وكان الهدف أن يتحول مستنقع الغاب إلى سهل خصب لزراعة محاصيل اقتصادية كالشمندر السكري، والفستق.
وعلى رغم النتائج الاقتصادية الإيجابية لتجفيف المستنقع على المدى القصير، إلا أنه وبمرور الوقت تبين أنه سيكون سبباً لمشاكل لاحقة، إذ أدى إلى انخفاض كبير في الرطوبة النسبية في وسط البلاد نتيجة انخفاض معدل التبخر، مما جعل مناخ المنطقة شبه جاف صيفاً، كما قاد إلى تراجع تغذية الطبقة العليا من المياه الجوفية الصالحة للزراعة والشرب، وتحتها طبقة المياه الجوفية الغنية بالمياه الكبريتية، وامتد هذا التأثير إلى مساحة تقدر بمائة كيلومتر شرقاً وأكثر من 125 كيلومتراً جنوباً وشمالاً، وعلى المدى البعيد ازداد القحط وتراجع نمو المحاصيل البعلية من قمح وشعير، وهكذا دفعت البلاد ثمن قرارات غير حكيمة مازلنا نرى تداعياتها حتى اليوم.
تحت رحمة الفاسدين
وبغض النظر عن الظروف البيئية، فإن ما لا شك فيه هو وجود تصيد حكومي صارخ تجاه المنطقة العطشى مقارنة بمناطق أخرى طالها الجفاف ولم تواجه أزمات مماثلة، وتصب أعذار الحكومة دائماً في خانة الإرهاب والمسلحين وهي الإجابات المعدة سلفاً لكل أزمة في هذا البلد، لكن أصابع الاتهام بالنسبة للأهالي تشير إلى عصبة من الفاسدين المتنفذين في المنطقة، إذ يرون أن جبهات القتال بريئة من أزمة المياه براءة الذئب من دم يوسف، وهو ما أكده استطلاع قاسيون لآراء عينة من أهالي المدينة.
إذ تقول ريتا صافية - خريجة جامعية- «تعاني مدينتنا من هذه المشكلة منذ أكثر من عشرين سنة، ولم نلمس أي جهد حكومي حقيقي للتخفيف منها، ومع بداية الأزمة بدأت المشكلة تتفاقم وأصبح انقطاع المياه يصل لمدة أشهر أحياناً بحجة الأعمال العسكرية، نتمنى حلاً جذرياً للمشكلة لأن المياه حاجة أساسية ليس لها بديل ولا يمكن أن نبقى تحت رحمة أصحاب الصهاريج، إلى جانب ذل الانتظار أمام المناهل لتعبئة مياه الشرب».
ويؤكد أبو علي - مدرس- «نحن في القسم الثاني من الحي الشمالي لم نر المياه مدة شهر وخمسة أيام، لأيمت بدنا نضل بلا مي، نحنا قدمنا عشرات الشهداء من أولادنا والكل بيعرف، ومع هيك ما حدا سائل عنا».
أما أحمد باكير - ميكانيك سيارات- فيضيف «في العادة نرى المياه مرة كل 25 يوم ، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد فكثيراً ما يتم التأخير في مواعيد المياه، مثل ما حدث منذ أيام عندما تم استهداف الرميلة التي راح فيها شهداء من شباب المنطقة والذي قاد إلى توقف ضخ المياه وتأخرها عنا.»
وتوضح سالي مزيد - مدرّسة - « لا نعلم بالضبط السبب الحقيقي لمشكلة المياه في سلمية، لكن بتنا نشعر بوجود اتفاق وتحالف بين أهالي القنطرة وأصحاب صهاريج المياه في المدينة، أعتقد أن الحلول ممكنة وكثيرة ولكنها تحتاج إرادة صادقة من قبل المسؤولين»
ويعقب أبو ناصر - موظف- «وعينا على المشكلة من التسعينات، عندما كانت مياه الشرب المخصصة لسلمية تذهب للري في الرستن، وأصبحت المياه تأتي يوم وتنقطع ثلاثة أيام، وفي 2012 تأزمت الأمور أكثر من قبل وباتت مأساة حقيقية، الحل الأمثل استجرار المياه من حماه حيث تتوافر بكثرة ولا يبقى للمسؤولين عذر أن المسلحين هم من قطعوا الماء».
«سلمية عطشانة»
شعار رفعه عشرات الأهالي الذين اعتصموا في الساحة العامة وسط المدينة مراراً، مطالبين بوضع حدٍ لمعاناة طال أمدها، وتنوعت الشعارات التي حملوها لتطال قضايا خدمية أبرزها - إلى جانب قضية المياه - ساعات التقنين الطويلة، ورفع المواطنون عبارات من قبيل « بدنا مي ، ما عم نطلب معجزات» و « سلمية عطشانة، بكفي تهميش « و»سلمية أم الشهداء بلا ماء»، و»حاج كذب.. ملينا، بدنا نشرب مي».
وإذا كان الدارج أن يقول الناس «المي بتكذب الغطاس»، فإن أهل المدينة يقولون في كل مناسبة «المي بتكذب المسؤولين».
لا للتهميش
إحساس الأهالي بالتهميش بدا واضحاً في شعاراتهم وكلماتهم اليومية، فهناك شبه إجماع على أن لا رغبة لأحد من المعنيين بحل المشكلة لأنها تعود بالنفع على ثلة من المتنفذين الذين يربحون في كل ليتر يباع من المياه، فهل بيعت المدينة وحياة مواطنيها رخيصةً لفئة من تجار الأزمات ومن في عدادهم، وهل يستمر «التطنيش» و «التسويف» الحكومي في ظل بوادر تشير إلى تصاعد الغضب الشعبي ومشاعر الغبن والاستياء لدى المواطن المفقر والمهمش والمحروم من أبسط الحقوق؟
جهود غير حكومية
مؤسسة الأغا خان الناشطة في المدينة أخذت على عاتقها تأمين مياه الشرب وإنشاء مناهل مخصصة لها في أحياء المدينة، إلى جانب تعاونها مع منظمة اليونيسيف للتأكد من سلامة مياه الشرب وإيصالها إلى أحياء المدينة بكل السبل المتاحة.
وبدورها فإن صفحات التواصل الاجتماعي التي أنشأها أهالي المدينة بادرت إلى طرح المشكلة والتواصل مع المعنيين في المدينة لمساعدة الأهالي على معرفة مواعيد ضخ المياه للأحياء المختلفة، كما ساهمت مؤخراً في الدعوة إلى الاعتصامات على مبدأ آخر العلاج الكي.
لكن هذه الجهود وإن كانت تخفف من وطأة المعاناة إلا أنها لا يمكن أن تكون حلاً لمشكلة تعود جذورها لعقود مضت، وإنما هي كما وصفها أحد المواطنين في تقرير تلفزيوني «إبرة مسكن» تخفف الألم لحين، لكنها لا تشفي الجراح.