في الجهات الرقابية.. الترهل شبه متعمد
واقع الحياة اليومية يشير بما لا لبس فيه إلى حالة الترهل والإهمال التي وصلت إليها الجهات العامة المعنية بالرقابة وتطبيق القانون، عبر أجهزتها العديدة المتنوعة الاختصاصات والمهام، حتى وصل الأمر لحدود التقصد بهذا الإهمال والتسيب المتعمد، مع انتشار وتعمق ظاهرة الفساد التي تغوّلت في بعض مفاصل عمل هذه الأجهزة، والأمثلة على ذلك لم تعد قليلة.
من الرقابة التموينية، إلى الرقابة الصحية مروراً بسلامة المياه إلى وضع الكهرباء، وليس انتهاءً بضبط المجرمين من حملة السلاح المنفلت الذين باتوا يعيثون إرهاباً وقتلاً وخطفاً هنا وهناك.
السلامة الصحية ع البازار
موضوع ارتفاع الأسعار والتراخي في ضبطها لم يعد خافياً على أحد، كما لم يعد بسر يذاع الحديث عن فساد بعض عناصر الرقابة التموينية، ولكن ما هو جديد بهذا المضمار هو أن غفلة هذه الرقابة أو قصورها لم تعد مقتصرة على مخالفة عدم التقيد بالسعر وغيرها من المخالفات الصغيرة، بل زادت الغفلة لتشمل مواداً مخالفة للمواصفات أيضاً، بما في ذلك بعض المواد الغذائية، والتي تعني مخالفة للمواصفات بها الإضرار المباشر بصحة المستهلكين، والتي قد تصل لحدود التسمم والوفاة.
على ذلك لم تعد تعنينا كمستهلكين البيانات كلها التي تتحدث عن عدد الضبوط التموينية المنظمة، التي يتم التبجح بها عبر هذه المديرية أو تلك، أو عبر الوزارة نفسها، بل ما يعنينا هو أن نكون مطمئنين لنوعية الغذاء الذي نشتريه من الأسواق أولاً، ثم الاطمئنان ناحية عدم تقاضي السعر الزائد ثانياً، فالحديث عن الغش بالألبان والأجبان المعروضة في السوق بات وكأنه من المتعارف عليه كأمر واقع، حيث تجد البسطات التي تعرض هذه المواد للبيع بالقرب من مقر مديرية تموين دمشق نفسها، كما الزيوت والسمون والصابون والمنظفات وغيرها من المواد التي تباع على البسطات أيضاً وأحياناً في المحلات وهي مخالفة للمواصفات، بل إن غالبيتها دون تغليف وتعبئة مناسبين وبلا بطاقة بيان، وذلك كله على مرأى ومشاهدة عناصر التموين.
لنصل مؤخراً عما يقال عن وجود كميات من الفروج المجمد والفاسد القادم تهريباً من تركيا، بعد أن تقطعت السبل أمام مربي الدواجن المحلية، وارتفاع أسعار هذه المادة بشكل كبير، مما فسح المجال أمام بعض التجار والمهربين بالتعاون مع بعض الفاسدين لتمرير هذه الكميات إلى الأسواق من أجل المزيد من التكسب على حساب المستهلكين وصحتهم، والمؤسف هو أن التركيز في الموضوع أصبح على التهريب بدلاً من التركيز على الصحة والسلامة أولاً، وكأن الريعية الناجمة عن مصادرته كتهريب أهم منها عبر مصادرته لمخالفة المواصفات والسمية، وربما معهم حق بذلك فالمصادرة كسمية تفرض الإتلاف الفوري بموجب القانون، وبالتالي لن يوجد من يستفيد من تلك البضائع بعد إتلافها، بينما المصادرة على أساس تهريب قد يكون هناك من يستفيد منها، بهذا الشكل أو ذاك، ولو كانت على حساب سلامة المستهلكين بنهاية المطاف، لتغدو صحة المستهلكين في بازار التجار سلعة كغيرها من السلع، وذلك كله بموجب القانون الذي يمكن أن يلويه بعض القائمين عليه وعلى حسن تنفيذه بكل سهولة، هذا بحال تم ضبط هذه المواد الغذائية الآتية تهريباً كلها.
الحاجة للمياه موضع استغلال
ليس بعيداً عن ذلك ما يجري أحياناً من واقع وجود مياه ملوثة يتم ضخها رسمياً للمستهلكين في بعض المناطق، وما يستتبع ذلك من قطع للمياه واضطرار الناس لاستجرار حاجتها من المياه عبر الصهاريج، التي غالباً ما تكون بعيدة عن الرقابة الصحية أيضاً، وقد تم نشر وتوثيق عدة حوادث وحالات تسمم بمياه الشرب هنا وهناك، أو التقصد بقطع المياه من أجل الترويج لعمل الصهاريج، وهكذا، حيث يظهر للعلن أحياناً بعض أشكال التواطؤ من أجل تيسير عمل بعض المستفيدين من أزمات الناس وحاجتهم للمياه.
الطاقة الكهربائية
مركز لتراكم الثروة
كذلك الأمر بالنسبة للكهرباء، فقد أدى الانقطاع الدائم للكهرباء في بعض المدن والمناطق للترويج لمولدات القطاع الخاص، التي تعمل من خارج القانون تحت ضغط الحاجة، ووقوع المستهلكين تحت رحمة هذا القطاع في جشعه واستغلاله لتلك الحاجات، بالإضافة إلى أن ساعات التقنين نفسها كانت قد أفرزت تجارة على هامشها تتمثل بالشواحن والليدات والبطاريات وغيرها من وسائل حفظ الطاقة الكهربائية ونقلها، ومع استمرار الأزمة وتفاقمها ظهرت شريحة واسعة مستفيدة من قطع الكهرباء، تشابكت وتحالفت مع بعض المتنفذين هنا وهناك، ناهيك عن السرقات التي تتم للكابلات والمحولات الكهربائية وحتى لأعمدة الإنارة أحياناً، وبالنتيجة أصبح قطاع استهلاك الطاقة الكهربائية مركزاً هاماً لتراكم الثروات على حساب المستهلكين وحاجتهم.
السلاح المنفلت هو الأخطر
ولعل أخطر ما وصلنا إليه من حالة عدم الانضباط والتراخي لدى الأجهزة المعنية بالرقابة وتطبيق القانون، هو واقع توسع انتشار السلاح، والذي أصبح بعضه منفلتاً ويتم استخدامه في بعض الأعمال ذات الصبغة الإجرامية من قبل بعض العابثين والمستهترين الذين يستغلون ظروف الحرب والأزمة، اعتباراً من عمليات السلب والتشليح وحتى سرقة السيارات والتعفيش تحت تهديد السلاح، مروراً بحالات الخطف من أجل الفدية، وليس انتهاءً بحالات القتل المباشر، سواءً كان ذلك عمداً أو عن غير عمد، حيث تم تسجيل المئات بل الآلاف من مثل تلك الحالات خلال السنوات المنصرمة، وما زلنا ندفع ضريبة استمرار وجود هذا السلاح المنفلت.
سياسة الانفتاح والفساد
لن نبالغ إن قلنا أن الجزء الأساسي من المعاناة باستمرار هذه الحالة من الفلتان والفوضى الرقابية وعدم تطبيق القانون، سببه الرئيسي هو الفساد المنتشر والمتوسع، بتحالفه الوثيق والعميق مع شبكات النهب والسرقة المقوننة عبر ما يسمى تحرير السوق وسياسة الانفتاح، والتي أخذت مجدها بظل ظروف الحرب والأزمة، ليطال تحالفها أيضاً بعض المجموعات المسلحة هنا وهناك، في تيسير للمصالح المشتركة بينهم على حساب أمن وسلامة المواطنين، والأمثلة على ذلك أصبحت كثيرة ومتعددة.
على ذلك لم يعد من المقبول عدم إعارة الاهتمام الكافي بعمل أجهزة الرقابة والجهات المخولة بتطبيق القانون، وتركها لحالة الفوضى والفلتان التي تساعد على انتشار وتوسع ظاهرة الفساد فيها، لمصلحة بعض المستفيدين من كبار التجار والسماسرة والمهربين والمتنفذين، حيث باتت الانعكاسات السلبية لهذا الترهل وهذه الفوضى تصيب الواقع الاقتصادي الاجتماعي بمقتل، ووقعها لا يقل سلبية من الإرهاب وداعش ومن خلفهما من قوى، بعضها متشابك بشكل أو بآخر مع بعض الكبار من المستفيدين داخلاً من ذلك.