مطبات: «نزع الوجه»
العنوان لفيلم أمريكي من بطولة نيكولاس كيج وجون ترافولتا، ويحكي عن مشاعرنا ومصائرنا وعذاباتنا إذا استبدلنا وجوهنا. ماذا لو لبس المجرم وجه الشرطي، والقاتل وجه الضحية؟ وحتى العشيقة هل تدرك رائحة عشيقها لو تغير وجهه؟.
الفيلم مزدحم بالمشاعر الإنسانية، الموت كلحظة تذكر أبدية، الحب كذاكرة عن اللحظات الخاصة التي لا يشترك بها أكثر من اثنين، والقتل كهوية للبعض، ودفاع عن الحياة في لحظة أخرى، خليط من المشاعر الإنسانية التي تحتدم وتتصارع دفعة واحدة.. لكن الحديث عن الفيلم ليس الغرض، هنا كم من المشاعر المتشابهة رغم اختلاف المواقف تتقاطع مع أبطاله، معنا نحن أبطال الواقع اليومي.
الآذن الذي يحمل البريد إلى معلمه ليوقع بقلمه صلاحية ما نفعل، الآذن الموظف البائس يلبس في لحظة وقوفه على الباب وجه معلمه، ويقذف بخبث وجهه بعيداً عن المراجعين، المراجع الواقف بانتظار رحمة الوجه الجديد ينظر إلى جيبه العامرة، ويسأل في أعماقه كيف سيكون الوجه الذي خلف الباب؟.
الوجه الذي يسكن خلف الباب أمام الكاميرا، ماذا تقدمون من خدمات للناس؟ كيف تعاملون مراجعيكم؟ ما هي التسهيلات التي وضعتموها لتسهيل معاملات المواطنين؟
تنهمر الأسئلة على المدير، من درج مكتبه الوثير يسحب وجه (الآذن)، وينزع وجهه بقوة البقاء على الكرسي، لسان يشبه ألسنتنا في الرجاء أو الدعاء، لسان ينطق بما يوحي به الوجه المسكين من عطف، وامتنان، شكراً للمواطن الذي يقبل تسهيلاتنا، وبعض أخطائنا، طوبى للمواطن حين نخفق في إرضائه ولا يدعو علينا بالزوال.. الوجه المسكين لا يستطيع أن يخفي نظرات مكبوتة وقاسية.
على طول الطريق من الموقف الأول المخصص لركوبك في السرفيس، والمخصص أحياناً لماسح أحذية أو لعاشقين متعبين من الحب، عاشقين يحاولان اقتناص قبلة سريعة، من ذلك الموقف إلى لحظة وصولك إلى المكان الذي تنشده، ينزع السائق وجهه مرة كل موقف، الوجه الساخط عندما يتحدث عن المواطن الذي يلاحقه من أجل خمس ليرات أو أقل، عن تغيير الخطوط أو إلغائها، عن شركات النقل الخاصة التي تحصد الركاب من أمامه، أما الوجه البريء فيلصقه أمام الشرطي إذا أراد أن يخافه بسبب عرقلة السير أو الرعونة، وجه العاشق حينما يشير الراكب بيده ويدفع بصمت، وجه الفاسد حينما يضع كرسياً جانبياً مخالفاً، أو يطلب من الراكب الجلوس مقرفصاً على غطاء الدولاب.. وجوه تشي بالتلون وقتما تشاء المصلحة، وقت حساب القانون على قدر المنفعة.
على قارعة الطريق يفرش المتسول أدعيته، بالتوفيق ووجه الشفقة إن مددت يدك، إن أدرت وجهك كي لا تنظر إلى عيني سائل ربما تنهال عليك أدعية عدم التوفيق، والغضب الإلهي، وبعض المشتغلين بمهنة التسول ينزعون أرجلهم، وآذانهم، وحتى أصابع أقدامهم... من أجل المال الذي انتزع قبل كل ما سبق كرامة أعماقهم.
المرأة عند الباب تقبل وجنتي الزوج الذاهب لجني المال، في جلساتها تنزع اللسان الودود والشفاه الآسرة، وترتدي في جلسة الحريم وجه الكيد والضحية والمضحية معاً، في المساء وجه الخادمة. اطلب تعطَ أيها الرجل، في وسط الشهر حينما ينكسر الرجل ويبدأ في الاستدانة، تسحب على مهل وجهها السليط، وتشكو من الدهر الذي ابتلاها برجل فقير، في سوق الصاغة وجه الملاك المحب، في عيد الزواج وجه العاشقة مع هدية، بدونها ترمي كل الوجوه إلا وجهها الأول.
في مهنتنا يمارس البعض لعبة تبديل وجهه في كل مقال، وأحياناً في كل سطر، وجه لمديح المدير العام، وجه لذم الموظف الصغير، وجه لابتزاز المخالف، وجه للشاعر والفنان والصناعي، وجه لمن يدفع ووجه لمن يمنع.. وجوه على قياس المتنفذ والقوي والملآن.
لم تسقط الأقنعة فقط.. سقطت الوجوه.