أذرع الدولة لم تنصفها الحكومة فكيف ينصفها المستهلك؟
عقود مرت على انكفاء الدولة عن دورها الاجتماعي تدريجياً، عبر تبني الحكومات المتعاقبة للسياسات الليبرالية على المستوى الاقتصادي، وانعكاسات تلك السياسات سلباً على المستوى المعيشي للمواطن، وهذا الانكفاء كان له أثراً سلبياً مباشراً أيضاً على مستوى الأذرع الحكومية التي كان دورها مرتبطاً بالدور الاقتصادي الاجتماعي للدولة.
ومن هذه الأذرع ما سمي بمؤسسات التدخل الإيجابي، التي عانت من صعوبات التأقلم مع الواقع لسنوات طويلة بين دورها الاقتصادي الاجتماعي المرسوم نظرياً، وتناقض المصالح مع السياسات الليبرالية الحكومية التي تخلت تباعاً عن هذا الدور، ما أدى لأن تكون ضحية هذا التناقض، حتى اقتصر دورها لتصبح حلقة وسيطة بين التاجر والمستهلك بنهاية المطاف، بالإضافة إلى تسليم بعض صالاتها ومنافذها للتجار، سواء بشكل مباشر عبر عقود رسمية، أو بشكل غير مباشر عبر عرض بضائع القطاع الخاص في تلك الصالات على مبدأ الأمانة، تحت ضغط الحاجة لتغطية إنفاقها، وتحقيق الريعية المطلوبة باعتبارها مؤسسات ذات طابع اقتصادي بنهاية الأمر، ما أدى لضياع دورها ولفقدان ثقة المستهلك بها تباعاً، وكان المستفيد المباشر من ذلك هم التجار وحيتان السوق فقط.
صعوبات ومراسيم حبر على ورق
الاستهلاكية والسندس والخزن والتسويق، عانت ما عانته من صعوبات، وتعاقب عليها العديد من الإدارات خلال تلك العقود، والتي سعى بعضها من أجل إعادة جزء من الدور المرسوم لها حسب مراسيم إحداثها، حيث تم تعديل بعضها بما ينسجم مع مستجدات الواقع الاقتصادي وإمكاناتها، وبقيت بعض تلك التعديلات حبراً على ورق من حيث التنفيذ، ولم يعدل بعضها الآخر حتى تاريخه.
نزاع على البقاء
وعلى الرغم من الترهل الذي أصاب تلك المؤسسات وتفشي الفساد في بعض مفاصلها، كغيرها من الجهات العامة الأخرى، خلال العقود المنصرمة كنتيجة للسياسات العامة المعتمدة، إلا أن نزاع البقاء على وجودها عبر دورها الاقتصادي الاجتماعي ما زال يحركها ويدفعها سعياً لإعادة الثقة مع المستهلكين، ولعل بعض مساع هذه المؤسسات خلال سني الأزمة ما يعزز ذلك، بالإضافة لما تحاول أن تثبته خلال شهر رمضان الحالي، بعيداً عن أي دعم حكومي مباشر، باستثناء مطالبتها بأن تقوم بواجباتها.
ورغم ذلك استطاعت مؤخراً من خلال بعض السلع التي تم استجرارها عبر الخط الائتماني الإيراني من أن تدخل حيز التنافس والمنافسة مع حيتان السوق على مستوى هذه السلع لمصلحة المستهلكين، وذلك عبر السلل الغذائية التي بدأت بعض صالاتها ومنافذها ببيعها للمستهلكين اعتباراً من مطلع شهر رمضان.
سلال غذائية متنوعة
تنوعت تلك السلل بين مؤسسة وأخرى، من حيث نوعية السلع وكميتها ومن حيث السعر الإفرادي والكلي، ولكن جميعها كانت تحتوي على السكر والزيت والرز والسمن، مع تشكيلة سلعية أخرى حسب المتوفر لدى كل منها، مثل العدس والشعيرية والمعكرونة وغيرها، أما عن تباين السعر فقد كان سببه هوامش الربح المعتمدة عند كل منها وحسب مصدر السلع، والتي قاربت حدود التكلفة في غالبيتها، والجامع بينها كلها أن هناك فارقاً سعرياً يعادل ثلث القيمة تقريباً بينها وبين مثيلاتها في السوق على مستوى القيمة الاجمالية للسلال المعروضة للبيع عبر بعض منافذ وصالات تلك المؤسسات.
السندس مثالاً
السندس هي أصغر تلك المؤسسات وأفقرها، من حيث رأس المال والسيولة وعدد الصالات وتعداد العاملين وعدد سيارات النقل، وغيرها من ضرورات وأساسيات العمل التجاري والتسويقي، وخاصة تلك المتعلقة بالقوانين والأنظمة، حيث ما زالت تعتبر مؤسسة خاصة بتوزيع المنتجات النسيجية، على الرغم من متغيرات الواقع الاقتصادي والتجاري كلها، (العام على مستوى شركات الإنتاج، والخاص على مستوى إمكاناتها المتواضعة والمتاحة)، والذي تسعى لأن تتجاوزه منذ سنين تحت ضغط ضرورات نزاع البقاء، وقد استطاعت ذلك عبر توسعها الأفقي بزيادة عدد منافذها التسويقية، والعمودي عبر زيادة تشكيلتها السلعية بإدخال الغذائيات والكهربائيات وغيرها، ولكنها بقيت كغيرها من المؤسسات محكومة بشروط التعامل مع التجار الموردين، أي أن فرص المنافسة في السوق محدودة، سواء من حيث المواصفة أو من حيث السعر.
السلة الرمضانية
بدأت سندس ببيع سلال غذائية مع بداية شهر رمضان، وقد كان سعر السلة التي تبيعها بحدود 3900 ليرة، بينما كانت السلل لدى الاستهلاكية والخزن بين 5000 – 10000 ليرة.
وقد كان سعر كيلو السكر بـ 225 ليرة والزيت النباتي بسعر 425 ليرة لليتر والرز بسعر 375 ليرة والسمنة 375 ليرة، بينما في السوق كانت الأسعار للمواد نفسها كالتالي: السكر بـ 350 ليرة والزيت النباتي بسعر 600 ليرة والرز بسعر 500 ليرة والسمنة بسعر 900 ليرة، مع اعتماد هامش ربح بحدود 5% لبقية السلع، وبالمجمل كان الفارق بين إجمالي قيمة السلة والسوق بما يعادل 40% تقريباً، وهو فارق كبير يصب بمصلحة المستهلكين بنهاية المطاف.
كما تستمر المؤسسة بتوزيع تلك السلل على مراكز المدن والمحافظات عبر بعض صالاتها هناك، حسب المتوفر لديها من كميات لتلك السلع والمواد، وخاصة منها تلك المستوردة عبر الخط الائتماني الإيراني، بالإضافة إلى نسبة الـ 5% من الكميات المستوردة عبر المستوردين من القطاع الخاص للمواد الأساسية وخاصة السكر، حيث فرض سابقاً اقتطاع نسبة 15% من إجمالي الكميات المستوردة لصالح مؤسسات التدخل الإيجابي، وقد كان واضحاً الإقبال من قبل المستهلكين على الصالات التي توفرت بها هذه السلال الغذائية، وذلك لما لمسه المستهلك من فارق سعري بها مع مثيلاتها في السوق.
كما قامت السندس أيضاً بتأمين سلل غذائية للعاملين لديها كافة بالمحافظات كلها، وتحتوي كل منها على 10 كغ سكر– 5 كغ زيت - علبة سمنة عدد 2 - 24 علبة طون - 1 كغ فريكة - عبوة مربى - وغيرها من المواد، بأسعار تنافسية، كمساعدة منها للعاملين لديها بهذا الظرف الاقتصادي المعاشي المتردي.
المستهلكون يشككون
المستهلكون عموماً لم يلمسوا إيجابية دور هذه المؤسسات على الرغم من وجوده، وذلك بسبب عدم تمكن تلك المؤسسات من أن تعمم بيع تلك السلل عبر الصالات والمنافذ التابعة لها كلها، وفي كل المحافظات والمدن كلها، وذلك بسبب اعتمادها على كميات محدودة متوفرة لديها من السلع الأساسية التي مصدرها الخط الائتماني الإيراني فقط، وهي التي فيها فارق سعري كبير مع مثيلاتها في السوق، أما السلع الأخرى والتي مصدرها بعض المنتجين أو المستوردين فهي ما زالت مرتبطة بحسن العلاقة مع هذا المنتج أو المستورد، وبالنتيجة يبقى دور تلك المؤسسات هو الوسيط بين هؤلاء والمستهلكين، مع كسر حلقة تجارية واحدة فقط من الحلقات التجارية، والاكتفاء بهامش ربحي ضئيل لتغطية بعض من نفقاتها، حتى أن الكثير من المواطنين لم يسمع بوجود سلال غذائية توزع عبر بعض منافذ وصالات البيع التابعة لهذه المؤسسات، وحتى من سمع منهم يتعذر عليه الذهاب إلى هذه المنافذ بسبب بعدها عن مكان إقامته والحواجز والنفقة المترتبة على التنقل، مع وجود الكثير من الشكوك حيال هذا الدور لتلك المؤسسات، ما يشير إلى عامل الثقة الذي بات شبه مفقود بين المواطن وهذه المؤسسات.
إمكانات بحاجة لدعم
بالمقابل، لعله من الواضح أيضاً أن تلك المؤسسات ما زالت تمتلك الإمكانية للقيام بدورها على مستوى كسر احتكار السوق لمصلحة المواطن، على الرغم من الترهل الذي أصابها كله، وخاصة خلال السنين الأخيرة، على أثر فقدانها لبعض من مراكز البيع والصالات، وتسرب عدد من العاملين لديها، وضعف الإمكانات الاقتصادية وخاصة السيولة، حيث تبقى تلك الإمكانية معلقة بالتوجهات العامة للدولة عبر فسح المجال أمام تلك المؤسسات لأن تطور من إمكاناتها بما يتناسب والواقع الاقتصادي الاجتماعي، وذلك بمنحها بعض المرونة عبر تعديل مراسيم إحداثها، وتأمين السيولة الكافية للقيام بدورها، وخاصة بمنحها الحق باستيراد السلع الأساسية لصالحها مباشرة دون وساطة، مع الإعفاءات الجمركية والضريبية اللازمة، وخاصة للمواد والسلع الأساسية، والتعامل معها كتاجر عام في السوق على هذا الأساس، من أجل استمرار دورها وواجباتها على مستوى تأمين السلع والخدمات للمستهلكين بالنوعية والسعر المنافسين، ومن غير ذلك فإن تلك المؤسسات لن تستطيع الاستمرار بدورها، وستبقى رهناً لدورها كوسيط بين التاجر والمستهلك.
ولعل ما يلفت النظر، كما يثير الاستغراب، هذا التناقض بين التوجه الليبرالي للحكومة على المستوى الاقتصادي الاجتماعي والمعاشي، مع عدم إنصاف هذه المؤسسات طيلة العقود المنصرمة، وبين التوجيهات الصادرة عنها بضرورة تفعيل وإبراز دورها لمصلحة المستهلكين، هكذا على مبدأ «إذهب أنت وربك فقاتلا!».