زراعة التبغ في ريف طرطوس والحقوق المنقوصة للمزارعين
قامت الدولة بحصر هذه الزراعة (من البذار حتى دخول المنتج المستودعات وفيما بعد تصنيعه وتسويقه) ضمن المؤسسة العامة للتبغ، وتمنح هذه المؤسسة الرخص للمزارعين وتعتبر رخصة دائمة، وبموجب هذه الرخصة توزع البذار والأدوية، والقسم المتعلق بالمشاتل من الأدوية يوزع مجاناً أما الباقي فيُدفَع ثمنه عند استلام المحصول، وهناك لجان مهمتها تدقيق الرخص ومراقبة موسم الزراعة، ويتم تقدير الموسم بالاتفاق مع المزارع على أساس الرخصة ضمن سقف معين للدونم الواحد، وكمقياس محلي يجب أن تستلم اللجنة من المزارع في نهاية الموسم عن كل دونم 200 كغ بنسبة خطأ %10 ، فإذا كانت الكمية المسلمة أقل من ذلك يغرم المزارع عن كمية النقص ضمن سعر رمزي تقدره المؤسسة سنوياً، أما الوزن الزائد فللفلاح الخيار إما أن يأخذه أو يتركه كوزن زائد لمصلحة المؤسسة بنصف السعر المعلن.
معاناة الفلاحين وشجونهم تعتبر زراعة التبغ من أكثر الزراعات البعلية حساسية، وتحتاج لمثابرة وعمل حثيث ودائم وبشكل جماعي لذلك يسمى محصولاً عائلياً، لا يغني صاحبه لكنه يعتبر دخلاً وسنداً إضافياً لحياة العائلة، أما أن يعتبر كمصدر دخل وحيد للعائلة فلن يكون مصيرها إلا العوز والفقر. إن الأعمال الصعبة والقاسية والطويلة التي يحتاجه أي عمل زراعي، وعوامل الظروف المناخية السيئة وإمكانية تلف المحصول، أصبحت من بديهيات العمل الزراعي، ويتقبلها الفلاح على مضض، وإن كانت كل ملامح انهيار المحصول بسبب عوامل يمكن تداركها على أرض الواقع فيما لو كان هناك قرار واضح باستخدام الإمكانيات العلمية المتوفرة وضمن خطط زراعية وآجال زمنية محددة، إلا أنه كثيراً ما ينسبها إلى عوامل خارج إمكانية البشر. ورغم الخسارة التي تلحقه وبالرغم من عدم توفر مصدر دخل آخر إلا إن عبارته معروفة (الحمد لله ولا يحمد على مكروه سواه) أما عندما تعطي زراعته غلالاً جيدة فهو في معظم الحالات أمام خيارين، الأول: تقلبات السوق وألاعيب التجار، والثاني: فساد بعض لجان التخمين والاستلام إذا كان المحصول حصراً للدولة. وفي كلتا الحالتين لا يغفر لأحد ذلك المكروه وتترك عنده أثراً تراكمياً أقله حدة تكفير الجهتين. بالرغم من أن الدولة توزع البذار والأدوية للمزارعين إلا إن البعض منهم شكا سوء الاستنبات وأحيانا يضطر المزارع لزراعة الصنف البلدي الذي يحتفظ ببذاره من الموسم الماضي، والبعض الآخر شكا من سوء بعض الأدوية أو نفاد صلاحيتها ضمن مخازن المؤسسة وبالتالي على المزارع أن يضاعف عملية الرش أو يشتري أدويته من الصيدليات الخاصة، وفي كلتا الحالتين تصبح تكلفة الإنتاج عالية وبالتالي هامش الربح ينخفض، وأكبر المعاناة للمزارعين تأتي عند تسليم المحصول للجان وخاصة إذا كانت فاسدة، سواء من حيث الإتاوات التي تُدفع على الملأ، أو من حيث التصنيف السيئ لمحصوله وهذا يعتبر بمثابة قصم ظهر المزارع، وأجاز القانون له الحق في الاعتراض على تصنيف الخبير لتبدأ معاناة جديدة من متابعة شكواه في اللاذقية، وإذا لم يكن الاعتراض على التصنيف ضمن مجموعة من المزارعين نتيجة تكلفة المتابعة العالية، يصبح الاعتراض مكلفاُ وفي كلتا الحالتين خسارة لثمن المحصول. ولطبيعة المزارع بعدم رغبته تكرار السفر إلى محافظة أخرى وتكرار المطالبة في دوائر الدولة ومعرفته مسبقاً بالتعامل الفوقي معه من البعض، يجعله يتنازل عن حقه شاكياً ألمه إلى ربه منزوياً في بيته (ملوماً محسوراً) وترتفع وتيرة غضبه إلى ترك هذه الزراعة، وقد يترك الأرض بوراً ويذهب للعمل في الخدمات في أطراف المدن، أو عاملاً يومياً عند مزارعين آخرين. في قرية (برمانة المشايخ) التابعة لمنطقة الشيخ بدر في طرطوس ذكر أحد المزارعين بأن 57 مزارعاً ألغوا رخصهم السنة الماضية، وهذا العام قد تفوق المائة رخصة، وبالرغم من أن المؤسسة العامة للتبغ وضعت تسعيرة الكغ الواحد من التبغ المسلَّم مثلاً صنف (فرجينيا) بـ151 ل س، ولديها دراسة خبير بأن التكلفة الكلية لزراعة هذا الصنف من قبل المزارع لا تتجاوز 55 ل س للكغ الواحد، بينما يؤكد المزارعون أن تكلفته أكثر من ثمن الشراء. ونعود لنقطة الصفر بسؤالين متناقضين: المؤسسة تسأل: مادام المزارع يخسر سنوياً في محصوله فلماذا استمرت هذه الزراعة عشرات السنين بالمنطقة نفسها وعائلات المزارعين نفسها جيلاً بعد جيل؟ والمزارع يسأل: مادامت الدولة واثقة عبر مؤسستها بأن الزراعة رابحة، لماذا يتنازل الكثير من المزارعين عن رخصهم ويتركون أرضهم ويذهبون للعمل كعمال هنا أوهناك؟ ويستجدون هذا المسؤول أو ذاك؟ ويدفعون مبلغاً كبيراً لأحد قنواته السرية كي يعملوا حارساً ليلياً أو عاملاً أو مستخدماً في أية مؤسسة حكومية؟
لجان التصنيف والاستلام تقوم المؤسسة العامة للتبغ بتشكيل لجان استلام المحصول من الفلاحين وتسمية خبراء لتحديد مدى دقة مواصفات الحصول مع التصنيفات والمقاييس لتحديد سعر الكغ من الدخان، ولديها قوائم دقيقة عن الوزن الذي يجب أن يسلمه كل مزارع، ويصنف المحصول ضمن مقياس (إكسترا 1 و2 و3 و4) ويحدد لكل تصنيف سعر، مثلاً: الإكسترا يحدد بـ176 ل س والأصناف الأخرى لها سعر متدرج، أما التصنيف الرابع فيعتبر عديم النفع ويسلم للجان دون تعويض إطلاقاً، ويذهب إلى مستودعات المؤسسة للإفادة من ضلوعه ومن ثم للتلف. واللجان لديها هامش %10 للوزن والتصنيف، وكثيراً ما يعطى هامش أكبر ضمن توصية شفهية من قبل أصحاب العقول الخيرة في الإدارة العامة أو القيادة تحت عبارة (ساعدوا المزارعين قدر الإمكان). وهنا إما أن يأخذ المزارع حقه من لجنة غير فاسدة أو يأخذ أقل من حقه أو أكثر من حقه في حال لم يقدم رشوة أو قدم لها رشوة إذا كانت هذه اللجنة فاسدة، ويذكر أحد المزارعين لقاسيون أنهم كثيراً ما يقعون تحت رحمة الخبير حيث تحصل عملية الرشوة مسبقاً لتحديد الصنف، والبعض الآخر علني على كل طرد مائة ليرة، وتحدث البعض عن بقايا التبغ والتي تسمى (الحسه) وليس لديها تصنيف ولا تسلم بالأصل، يجمعها بعض التجار وتسلم تحت تصنيف معين بالتواطؤ مع اللجنة وضمن حيازة وهمية، وأحياناً توضع باسم رخصة ميتة دون علم صاحبها، أو تباع هذه الرخصة الميتة من صاحبها إلى تاجر لا يزرع تبغاً على الإطلاق، ويقوم بعض المزارعين بوضع هذه البقايا التالفة والتي يجب أن تحرق ضمن محصولهم، وضمن تصنيف إكسترا أحياناً، وطبعاً بالاتفاق مع اللجنة.
ثقافة الفساد وفرت الدولة للمزارع بعض مستلزمات الإنتاج من البذار والأدوية حتى استلام المحصول، ووضعت القوانين ويسرت الكثير من الخطوات كي يحصل المزارع على حقه، ومن المفترض أن تكون النتيجة الحتمية لهذه العملية تمتين الثقة بين المزارع والدولة ومؤسساتها. لكن بلعبة الفساد وسيادة المصلحة الخاصة على المصلحة العامة هناك من يدق إسفيناً بين المواطن والدولة ويجعل الفجوة تزداد باطِّراد بإظهار وتضخيم دور التجار فيما لو كانت زراعة التبغ بيدهم بدلاً من الدولة. إن هذا الفاسد الموظف ابن الدولة، والمفترض به الحفاظ على مؤسسته ومصدر نعمته، وتطبيق القوانين الناظمة المؤتمن عليها، ولكنه بلعبة الفساد هذه يعمل على: تشجيع التجار لشراء التالف من محاصيل الفلاحين وتكديسها وترتيبها وبيعها للمؤسسة، وبالتالي أضر باقتصاد الوطن وأساء صورة ونوعية الصناعة الوطنية، خَلَق ثقافة الفساد لدى المزارع البسيط الذي بقي الحصن الأخير من نظافة النفس واليد والمكان في عملية الفساد السائدة، وإرغامه على غش محصوله ودفع رشوة لهذا الخبير أو ذاك.
اقتراحات وحلول
• أن يكون مع كل لجنة ثلاثة أشخاص ليس لديهم أية صفة اعتبارية رسمية (كالمختار أو رئيس جمعية أو عضو فرقة حزبية) بل من المزارعين ذوي الخبرة في الزراعة، وأصحاب ثقة بمحيطهم، مهمتهم الإشراف والمراقبة وتقبل ملاحظاتهم. • إتلاف الكمية عديمة النفع في مكان الاستلام بتوقيع شهود وبموجب محضر رسمي. • إعطاء حق للصحافة بالكتابة والمراقبة وعدم حجب المعلومات، وأخذ ما يُكتَب ضمن المحافظة على المصلحة العامة والتحقيق بما يكتب. • العقوبات الرادعة والقوية لمن يخطط للمخالفة مسبقاً، ويضر بمصلحة الوطن أو المزارعين، ويسيء لسمعة الدولة من أجل ثرائه الخاص. |