هل ستصبح اللقاحات مأجورة؟ نقص الجرعات في المستوصفات العامة يشعل فتيل «السوق السوداء»
لطالما ادعت الحكومة بأن القطاع الصحي بمأمن من عمليات وإجراءات رفع الدعم وعقلنته، أو كما رغبت بتسميته لاحقاً تصحيحاً للأسعار، ولكن واقع الحال بالنسبة لهذا القطاع بدأت ترتسم ملامح الخصخصة عليه، ولعل لقاحات الأطفال ستكون فاتحته.
لم يكن فهد يتوقع أن ولادة طفله في هذه الفترة السيئة ستنعكس بهذا الشكل على تأمين أبسط متطلبات الحياة والصحة، فرغم الغلاء وانعدام الأمان في فترات سابقة بسبب القذائف والقنص وغيرها من مخلفات الحرب، إلا أنه كان مطمئنا لتوفر متطلبات الرعاية الصحية مجاناً في مراكز الدولة الصحية، وتحديداً اللقاحات الحامية للأطفال من أسوأ الأمراض..
أطفال عرضة للعدوى
قصد فهد مع ابنه ذي الشهرين مركزاً صحياً في منطقة المزة، لتطعيمه باللقاح المجدول في هذا العمر، إلا أن جواب الأطباء في ذلك المركز كان مخيباً للآمال، بأن اللقاح غير متوفر، ولا معلومات دقيقة حول موعد تأمينه، إن تم ذلك.
وقال فهد، من سكان دمشق، مشتكياً لجريدة (قاسيون)، «أنا على هذه الحال منذ شهر، وقصدت المركز وغيره مرات عديدة دون جدوى، والآن طفلي بلا لقاح، وبت أخشى اصطحابه خارج المنزل خوفاً عليه من العدوى».
من جهتها قالت نور، تقطن في جرمانا بريف دمشق، «اصطحبت ابنتي قبل شهرين إلى المستوصف لإعطائها اللقاح المخصص لبداية الشهر السابع، وفقاً للجدول على بطاقة اللقاح التي تم منحنا إياها منذ ولادتها، لكنني تفاجأت بتواجد عدد كبير من الأمهات مع أطفالهن، في المركز والاستياء ظاهر على وجوههن، لأكتشف بعدها أن اللقاحات لكافة الأعمار غير متوفرة».
وتابعت نور، أم لثلاثة أطفال: «مضى شهران وابنتي بلغت التسعة أشهر دون أن تتلقى لقاحها المفترض، ولا نعلم إلى متى سيستمر هذا الحال».
وتساءل المواطنون، عن أسباب انقطاع اللقاحات في المراكز الحكومية، في حين يتمكن أطباء الأطفال من تأمين مختلف الأنواع، ويتقاضون أجوراً خيالية لقاء اللقاح، تصل إلى 20-25 ألف للجرعة الواحدة، علماً أن معظم اللقاحات تعطى على جرعات ما يجعل تكلفة تأمين اللقاح بكامل جرعاته تتجاوز الـ 50 ألف ليرة.
وتحدثت أغلب الشكاوي عن نقص لقاحات الشهر الخامس (الرباعي+ شلل عضلي)، ولقاح الشهر السابع الخماسي (رباعي+شلل فموي+ كبد).
«إبرة بنج» بدل اللقاح
وجاءت تصريحات رئيس المنطقة الصحية في صحنايا محمد حامد، مطابقة لشكاوى المواطنين، حيث أكد النقص في اللقاحات بعدة مراكز صحية إضافة لمراكز صحنايا، معتبراً أن المراكز ليست المسؤولة عن تأمين اللقاحات وإنما هي جهة موزعة، في حين يعد تأمينها من مسؤولية وزارة الصحة.
أما نقيب صيادلة سورية الدكتور محمود الحسن، فطمأن عبر تصريحات إذاعية، بتوفر اللقاحات كافة، لمختلف المراحل العمرية، دون أن ينكر انقطاع تواجدها لفترة قصيرة على حد تعبيره، بينما لم تتجاوز مدة فقدان اللقاح الخماسي من بعض المراكز الصحية الـ 15 يوماً، وما لبث أن تم تأمينه.
ويأتي تأكيد النقيب الحسن، ليضاف إلى قائمة تصريحات صحفية سابقة لزملائه من وزارة الصحة مثل الدكتورة رزان طرابيشي، مديرة برنامج التلقيح في وزارة الصحة، التي قالت قبل عشرة أيام إن «لقاح الخماسي اللا خلوي 3 غير موجود حالياً في أغلب المراكز الصحية، بسبب سوء توريده من قبل بعض الشركات الطبية، إلا أنه وخلال أسبوع سيكون متوافراً في المراكز الصحية جميعها، وسيتم استخدامه ليس فقط لعمر الستة الأشهر وإنما لكل الأعمار»، وهو الأمر الذي لم يحدث حتى تاريخه، لتكون تلك التطمينات بمثابة «إبر بنج» كما يصفها الناس.
«السل» وضعه محرج
فيما كشف أمين سر نقابة أطباء سورية آصف الشاهر، في تصريح إذاعي، حقيقة الوضع السيء، بالاعتماد على المخزون المتواجد من اللقاحات، مع انعدام توريد دفعات جديدة منها للبلاد، في حين اقترح للحل الاستعانة بالقطاع الخاص لتأمين ما بات صعباً على القطاع العام توفيره.
وقال الشاهر إن «بعض المراكز كان فيها بقايا لقاح خماسي لكنها لا تغطي حاجات الأطفال المتواجدين في دمشق وريفها، لافتاً إلى أنه ليس من المستحسن التأخر في تطعيم الطفل باللقاحات عن الفترة المجدولة بها».
وتابع الشاهر «من الهام في هذه المرحلة، تأمين لقاح السل غير المتوفر، في حين هناك وفرة في لقاحات الشلل، حيث سيتم إطلاق حملة ضد شلل الأطفال في الـ24 من الشهر الحالي، والجديد هو أن اللقاح المقرر تقديمه ثنائي التكافؤ ذا الجودة الأعلى من ثلاثي التكافؤ، الذي تم تقديمه في أوقات سابقة».
لقاحات الأطباء «مهربة»
وعن رؤيته لحل نقص اللقاحات رغم ضرورتها وأهميتها الكبيرة، اعتبر الشاهر أنه يجب فتح المجال أمام القطاع الخاص، وعدم منعه من استيراد اللقاحات، فالدولة تواجه تباطؤ في تأمينها بسبب الحصار، بينما يمكن للقطاع الخاص تأمينها بطرق أسهل، وتحديداً تلك التي يوجد نقص فيها.
وفيما يتعلق بتواجد اللقاحات لدى بعض الأطباء، وبأسعار باهظة، أكد الشاهر إن «كافة اللقاحات المقدمة من قبل الأطباء، مهربة بطرق غير نظامية، من لبنان، ويتم تسعيرها بالدولار لذا هي مرتفعة الثمن».
واستدرك الشاهر الموضوع بقوله «في حال السماح للقطاع الخاص بالاستيراد، فذلك لا بد أن يكون بإشراف الدولة عبر وزارة الصحة، على السعر والتخزين والفعالية، بغية ضمان جودته وسلامته، ووضع سعر معقول للمواطنين».
الحل: إما قطاع خاص أو سوق سوداء
وأكد أمين سر النقابة، إن «اللقاحات عند الأطباء غير مضمونة، وفقدانها من مراكز الدولة يشجع على خلق سوق سوداء للقاحات».
وفيما يتعلق بتحديد الفترة الزمنية التي بدأت خلالها اللقاحات بالانقطاع، حدد الشاهر أنه «منذ سنة بدأ الاعتماد على المخزون الاحتياطي من اللقاحات، لعدم توريد دفعات جديدة، بينما بدأت مشكلة فقدان بعض الأنواع تظهر منذ ستة اشهر».
يشار إلى أن تكلفة تأمين اللقاحات الـ11 اللازمة لبرنامج التلقيح الوطني المعتمد في سورية، كانت تصل إلى 5 مليار ليرة في عام 2013، بينما تم تقدير تكلفة آخر حملة تلقيح أطلقت العام الماضي ضد مرض الحصبة وبالتزامن مع حمله تلقيح الأطفال المتسربين عن اللقاحات المشمولة ببرنامج التلقيح الوطني بـ3 مليار ليرة.
وجدير بالذكر أيضاً أن المناطق التي خرجت عن سيطرة الدولة، وتخضع لسيطرة الفصائل المعارضة أو تنظيم «داعش» لا يتم تأمين جرعات اللقاحات للأطفال فيها من قبل الحكومة، وعانت فترات طويلة من توقف حملات التلقيح، باستثناء ما قد تقوم به المنظمات الإنسانية الفاعلة فيها، من حملات غير منتظمة غالباً.
اقتراحات مريبة!
تثير الاقتراحات العديدة السابقة، الريبة، حول حقيقة هذه الظاهرة المتمثلة بنقص اللقاحات، وصولاً إلى عدم تواجدها بالمراكز الحكومية، لما يبدو أنه بات وضعاً مشابهاً لحال العديد من المواد الأخرى حين تفقد من السوق، ويكون ذلك تمهيداً لحدوث تغيير في وضعها، إما برفع السعر، أو بمنح القطاع الخاص دوراً أكبر في تأمينها وهو ما يتم الترويج والتسويق له على مستوى لقاحات الأطفال حالياً.
وهذا التسويق والترويج في منح القطاع الخاص هذه الميزة، قد يكون دليلاً على أن الرعاية الصحية شبه المجانية، ستنضم لغيرها من المجالات والقطاعات، التي شهدت وتشهد رفعاً دورياً للدعم الحكومي عنها، وستصبح مأجورة شيئاً فشيئاً، استغلالاً لحاجة وأهمية هذه اللقاحات بالنسبة للأطفال، خاصة وأـن ميسوري الحال أصلاً لا يمانعون التوجه إلى الأطباء بغية تأمينها لأطفالهم بأسعارها المرتفعة، والفقراء وأصحاب الدخل المحدود سيجبرون، تحت ضغط مراعاة الوضع الصحي لأطفالهم، للتوجه أيضاً لهؤلاء، ودائماً وأبداً هناك شريحة مستفيدة وتثرى على آلام ومعاناة الناس، تتمثل بكبار التجار والسماسرة والمهربين وبعض المتنفذين من الفاسدين.