من الذاكرة: ولا الضالين!


للبيوت دورها في حياة ساكنيها فهي الملاذ والمأوى، لكن بعضها يتسع دوره ليغدو مجالاً ومكاناً للنشاطات وبخاصة السياسية ومن هذه البيوت بيت الرفيق خالد بكداش الذي أصبح بيت الحزب، يقع على جانب نهر يزيد بحارة البكاري بحي الأكراد، وهو بناء طيني قديم بساحة كبيرة، بدأ يسترعي الانتباه منذ أوائل ثلاثينيات القرن الماضي زمن الاحتلال الفرنسي.. فأحد شباب الأسرة التي تقطنه أصبح شيوعياً، ومن يومها أخذت الأخبار تترى عن البيت وساكنه، فقد تعرض «للكبسات» والمداهمات مرات عديدة وسجن أحد سكانه وقدم للمحكمة العسكرية الفرنسية.. فالبيت كانت فيه مطبعة تطبع المنشورات السياسية الممنوعة، ولم تتوقف المداهمات بعد الاستقلال وبخاصة في عهد الديكتاتوريات العسكرية «حسني الزعيم، فوزي سلو، أديب الشيشكلي» وهدأـ الأمر بين عامي 1954 و1959 حيث ساد جو من الديمقراطية والنهوض والنشاط الشعبي السياسي والوطني، ثم عادت المضايقات والمراقبة الأمنية الدائمة خلال عهد الوحدة والانفصال وحتى بعد الثامن من آذار عام 1963.

والقفزة النوعية في تاريخ هذا البيت كانت بعد سقوط الديكتاتورية بداية عام 1954 فأصبح البيت المركز الرئيسي في نشاط وعمل قيادة الحزب واجتماع كوادره، وملتقى وفود العمال والفلاحين والمثقفين الوطنيين، وساحة للاحتفالات والمهرجانات الوطنية والطبقية، ولعل ذورتها تلك الحشود الشعبية التي وفدت من كل أنحاء البلاد لتستمع لأول نائب شيوعي في العالم العربي وهو يقدم كشف حساب عن عمله في البرلمان عن عام مضى.

وأذكر أن «إدماني» على حضور جلسات المجلس رافق ذلك الحساب، فقد «ضربت» صحبة مع عدد من نواب دمشق وهم يدخلون إلى المجلس، وصرت أحصل منهم على بطاقات دعوة لحضور الجلسات التي كنت أنقل أخبارها بالتفصيل إلى رفاقي وأصدقائي ــ وفي الذاكرة الكثير منها.. ومن تلك التفاصيل أن النائب الرجعي فرزات المملوك الذي يكره الشيوعية والشيوعيين اقترب خلال الاستراحة من الرفيق خالد الذي يقف مع عدد من النواب ليسأله بلهجة ماكرة خبيثة محاولاً «إرباكه»: هل صحيح ــ أستاذ خالد ــ أن الشيوعيين يتزوجون أخواتهم؟

وجاء الرد القاطع المفحم: هذا مجرد كلام ساقط ورخيص، وهو محض دجل وافتراء، فالشيوعيون لا يتزوجون أخواتهم ــ أستاذ فرزات ــ أما إن كنت أنت ترغب بفعل ذلك فهذا شأنك وحدك!

وبالعودة للحديث عن البيت أقول إنه منذ بداية العام 1954 كلف عدد من الرفاق بالتناوب بحراسة وحماية البيت، واتخذوا من الدكان الملاصقة للبيت وكانت غرفة مركزاً لهم وأقاموا أمامها «براكية» للحراسة. وحرس البيت رفاق من كل منظمات الحزب في المحافظات إضافة لرفاق منظمة دمشق وبخاصة فرعية الحي، وأذكر من جيل الحرس الأول الرفاق خالد الكردي «الزعيم» وعبد الجليل رشواني وأبو راشد قره قجي وحمادة بارافي وأبو جمعة مللي ومحمود متيني وأحمد ولطفي اله رشي ونديم وفخري رمضان وأبو فؤاد سعيد خلو و... ومن الجيل الثاني صلاح ملاطيه لي وابو نزار وليد كيكي وأبو عصام محسن أيوبي وشيركو وبشار كردي وأبو أنصار وحمزة وأحمد وجوان و...، وبعد تجديد الجسر قرب المحرس من جسر ترابي لجسر اسمنتي قمنا ببناء الأدراج كما أقمنا أحواضاً للورد والزهور على ضفة النهر، ومع بدء أحداث الأخوان المسلمين جعلنا من الأحواض متراساً لحماية البيت.. ومن ذكريات المرحلة الأولى من الحراسة أن أهلي وهم أسرة محافظة متديّنة سعوا جاهدين لإبعادي عن النشاط السياسي حتى أنهم أغروني وأنا شاب لم أدع بعد للخدمة العسكرية بأن يخطبوا لي شريكة العمر، وقد اضطررت «لمسايرتهم» لتجنب المشاكل، وكانت «المحظوظة» إحدى قريبات أمي، وكانت الخطبة مجرد (تلبيس خاتم) وبعدها بأيام قليلة مر «عم المستقبل» من أمام المحرس فرآني مع الحرس... وفي المساء استدعاني وبحضور والدتي قال لي: أنا لا أريد زوجاً مصيره السجن والاعتقال، فقلت له: يا عم العمل السياسي ليس جريمة ولا عيباً.. هو عمل لخير الناس وحقهم في حياة كريمة وعزيزة، وعلى كل أفعل ما تقتنع به!

وتم الاتفاق على فسخ الخطبة، وبعد حوالي خمس وعشرين سنة مر «العم السابق» ورآني مع الحرس فوقف معي وحدثني بكل حُبٍّ وطيبة «الزواح حظ ونصيب» وسألني عن أحوالي وهو يضحك فقلت: بخير ولكن ماذا يضحكك يا عم فقال: يا ابني الله محييك فأنت ثابت على مبدئك وعملك وهذا والله شيء جيد ويدعو للسرور، وحياني وانصرف مودعاً بالاحترام.

وحادثة أخرى جديرة بالذكر، وهي أن أكثر أبناء الحي يمرون من أمام المحرس ويسلمون علينا بحرارة ويقفون معنا ونتبادل الأحاديث معهم، إلا قلة قليلة دون تحية أو وقوف حتى دون التفات نحونا... وهذا ما كان يؤلمني وكنت «بيني وبين نفسي» أشبههم بعربة قطار تسير على السكة، لكنني كنت في الواقع أظلمهم، لأنني أدركت بعد حين حقيقة تصرفهم ذاك.. فواحد منهم هو والد أحد اصدقائي وهو رجل مسن يمر ــ كما قلت ــ من أمام المحرس فاعترضته يوماً وحييته فبدا مرتبكاً وقال لي:

«يا عمي في ولاد حرام عم يراقبوكم وأخشى أن أتعرض لسين وجيم وأنا بهده السن... لا تفهموني غلط يا أبنائي» فعبرت له عن احترامنا الكبير له وقلت: هناك حل لهذا «الخوف» فقال وما هو؟ قلت إن سألوك لماذا تتحدث معنا فقل لهم: تعرفون أن هؤلاء «ضالون» وأنا أحاول هدايتهم.. فضحك وقال: والله هذه «تخريجة» لم تكن تخطر على بالي أبداً ومن يومها تكررت زياراته ووقوفه معنا وهو مطمئن القلب والبال!!