من الذاكرة: الباشكاتب

هي حادثة جديرة بالذكر، لتبقى حية في أذهان ووجدان الرفاق الشباب.. ففي عام 1962 خلال عهد الانفصال، صدر عن الحكومة قرار بمنع عودة الأمين العام للحزب الشيوعي السوري الرفيق خالد بكداش إلى أرض الوطن، وكان من الطبيعي أن يهب الرفاق ساعين إلى إلغاء هذا القرار الجائر، والسماح للرفيق بأن يعود إلى بلاده، وهذا حق لا جدال فيه لأي مواطن سوري... وفي مجال هذا السعي قامت وفود من الرفاق بمقابلة المسؤولين الحكوميين ومطالبتهم بالتراجع عن هذا الموقف السيئ وإليكم حكاية أحد هذه الوفود:

في صباح أحد أيام أيار زارني المسؤول الحزبي وطلب مني إبلاغ أعضاء فرقتنا للحضور وللمشاركة في وفد حزبي سيتجه إلى مقر الحكومة في السرايا على ضفة بردى قرب ساحة المرجة «مقر وزارة الداخلية حالياً»، وبالفعل نفذت المهمة وأبلغت الرفاق بالمهمة، وكان من بينهم الرفيق عبد الرزاق عرفات، وكان يسكن في إحدى البنايات بمنطقة السنجقدار، وعندما قرعت جرس بيته أطل علي أبوه ورمقني بنظرة «غير ودية»، والسبب في هذا التصرف هو الخوف على ابنه «من العمل السياسي الذي يحمل الهم والغم واحتمالات السجن والتعذيب»، ونادى على ابنه: تعال شوف رفيقك. ولما أتى أبلغته بصوت أقرب إلى الهمس أن يرتدي ثيابه فنحن مكلفون بالمشاركة بوفد لمقابلة رئيس الوزراء  خالد العظم ووزرائه في السرايا، «كل الحكومة كانت في بناء واحد»، وطمأنته أن لا مشاكل ولا متاعب في هذا الأمر.

وما هي إلا فترة قليلة وانطلقنا إلى حيث الموعد.. وهناك تجمع الرفاق ودخلنا مبنى السرايا والتقينا رئيس الوزراء، وعدداً من أعضاء الوزارة المتواجدين، وطالبناهم بالعمل على السماح للرفيق خالد بالعودة إلى بلاده.. وأوضحنا لهم أن لا شيء ولا سبب يحول بين مناضل وطني وبين حقه في الرجوع إلى وطنه... وبعد ذلك قرر الرفاق التوجه إلى القصر الجمهوري لمقابلة رئيس الجمهورية ناظم القدسي وسرنا عبر شوارع دمشق بدءاً من شارع الملك فؤاد فبوابة الصالحية فالبرلمان إلى الشهداء إلى عرنوس فالجسر الأبيض إلى العفيف وحتى الباشكاتب.. لتعترض سيرنا سيارة جيب للشرطة وترجل منها رائد وسألنا إلى أين أنتم ماضون... فقلنا: إلى القصر الجمهوري في المهاجرين، ودخلنا في نقاش معه حول قانونية هذا التوجه.. وما خطر في البال أن هذا الاعتراض لسيرنا كان تمهيداً لوصول عدة سيارات شاحنة مملوءة بعناصر الشرطة لقمع هذا التحرك المشروع، وحدث اشتباك أدى إلى جرح عدد من الرفاق وانتهى باعتقال قرابة أربعين رفيقاً كنت أحدهم، حيث فاجأني رقيب من قوى الأمن بصفعي كفاً قوياً على وجهي وأنا أصعد الرصيف، رددت عليه بلكمة في وجهه وكنت أحمل في اليد الأخرى كتابين من كتب البكالوريا سقطا على قارعة الطريق حين انقض علي عدد من الشرطة وحملوني حملاً وألقوا بي في الشاحنة الممتلئة بالرفاق وكان بينهم الرفيق عبد الرزاق.. وانطلقت الشاحنة بنا إلى سجن قلعة دمشق ونحن نهتف من على ظهر الشاحنة المكشوفة ضد الأساليب الديكتاتورية إلى أن «حط بنا الرحال» في القلعة وكان الاستقبال «الرائع» من مدخل السجن إلى ساحته الرئيسية، أعداد كبيرة من الشرطة «على الصفين».. ضرب ولكم ورفس وشتائم، أشبه بالأفلام المرعبة غير أنها كانت حقيقية.. فالقمع هو القمع في مختلف «الفصول».