!أوقاتٌ سوريّة
في وقت ما تجلس مجموعة من أصحاب ربطات العنق في صالات فارهة، دفء جوها يدفع الجميع إلى الاسترخاء والتثاؤب، من أمامهم ما يسعف حناجرهم الباردة بألذ المشروبات والمأكولات، يتجاذبون أطراف الحديث جيئة وذهاباً، بكل هدوء وتؤدة، يصعدون تارة ويتراخون أخرى، تبعاً لجدية الحديث وحماسته، أو لهزليته وسذاجته.
سنذهب إلى الحوار، لن نقبل بالحوار، سنسعى لوضع حل، حلكم لا يرضي ممولينا، سنقف بوجه النظام، سنعمل مع النظام...
ينتهي الوقت المخصص لهذا الاجتماع، فيؤجل ما - لم ولن - يتم الاتفاق عليه إلى اجتماع قادم، قد تتواجد فيه الوجوه نفسها، وقد تتبدل، باعتراض أحد، وانسحاب أحد، واختلافٍ في توجه أحد!.
أحد عشر شهراً وما زالت تلك الجلسات على حالها.. لم تنته، ولم تتقدم خطوة باتجاه يبشر ببصيص ضوء في آخره، بل يسعى المجتمعون في معظمها إلى التأني، ففي التأني السلامة!.
في الوقت ذاته.. تجلس مجموعة أخرى مختلفة قليلاً، اجتماعهم قسري، ملابسهم مهترئة، زنازينهم باردة، وحناجرهم جافة، يتهامسون أن اصبروا وصابروا، لأن في الخارج من يجتمعون سعياً لإخراجكم مما أنتم فيه.
وفي الوقت ذاته.. هناك دماء تسيل في الشوارع، تملأ الحفر التي تزين الطرقات، تنتظر أن يتوقف النزيف الذي يتزايد باطراد، لحظة بعد لحظة.
دماء خلفت وراءها أيامى ويتامى، خلفت وراءها شبحاً يطوف بكل شارع صارخاً: هل من مزيد؟!
وفي الوقت ذاته.. هناك أطفال تنظر شزراً، وشباب تلهج بأنظارها عالياً، علها ترى مستقبلاً مشرقاً، يفتح أبوابه أصحاب الوقت الأول - المعقود عليهم الأمل - المذكورون عالياً.
وفي ذات الوقت.. هناك جياع باتت بيوتهم تضيق باستقبال رغيف الخبز المعجون بالشعير، يتنازع بعضهم إشارات المرور، كي يحظى بخمس ليرات، انحدرت قيمتها الشرائية، لتزيد عناءهم عناءً، ولتزيد طينهم بلاً..
وفي ذات الوقت.. هناك من يضرب ومن يُضرب، هناك من يشتم ومن يُشتم، هناك من يملأ قلبه حقداً وغضباً، ينتظر الفرصة كي يقتل وينتقم ويخرب ويعيث فساداً..
كل ذلك الوقت لم يعن للحظة واحدة أصحاب الوقت الأول، بأن يشمروا عن سواعدهم، وأن يوحدوا كلمتهم، وأن يقفوا صفاً واحداً برأي واحد، ووجهة واحدة، حرصاً على من يحلم بالمخرج من خلالهم، وخشية أن تنفد أوقاتهم، ويعيل صبرهم.
ترى هل من الممكن أن ينتظر المعتقلون في زنازينهم، والمدمون في جراحهم، والمتربصون بدهائهم، والمنتظرون الحل عاجلاً، أن يتفق الفرقاء، وأن تتوحد الأطياف، أم هل سيطول ذلك؟!