«السبكي» من ملكية ذات نفع عام .. إلى شبه «خرابة»  محافظة دمشق .. مفتاح السر والتناقضات

«السبكي» من ملكية ذات نفع عام .. إلى شبه «خرابة» محافظة دمشق .. مفتاح السر والتناقضات

شهدت العاصمة دمشق، مؤخراً، شكلاً «غير حضاري» لبعض الحدائق العامة، مثل السبكي وحديقة أخرى بجانب قصر العدل على اوتستراد المزة، أتربة مكومة، وحفر ضخمة، وأشجار مكسرة، وأسوار مهدمة، وبقيت الحدائق على هذا الشكل حوالي العام أو أكثر، وهنا بدأت التكهنات عن السبب، وخفايا ما يحدث فيها، إلى أن تبين بأن القضية ليست بعيدة عن مشاكل خصخصة الأملاك العامة.

حازم عوض

ينفي وينفي

تصريحات محافظة دمشق خلال السنوات الست السابقة، حول قضية الاستثمارات «الفاشلة» في الحدائق العامة عبر جهات خاصة وعامة، طالها التعديل والتغيير والتأكيد والنفي مراراً، ومؤخراً، نفت المحافظة كل تصريحاتها السابقة وحتى آخرها الذي أعلن منتصف 2015، حيث قامت بإلغاء عدة أمور ضمن بنود العقود السابقة، ومنها المرآب المأجور الذي طرحت الحدائق للاستثمار بالأساس لأجله، إضافة إلى المطعم الذي أضيف على عقد الاستثمار لاحقاً، حيث صرح مدير الإشراف بمحافظة دمشق علي الحلباوي لإحدى الإذاعات إن «فكرة إنشاء المرآب كانت واردة في البداية لكن تم استبعادها لاحقاً، أما المطعم فهو غير مطروح بالأساس ضمن المشروع، فمساحة الحديقة لا تحتمل مثل هذا الطرح، فضلاً عن أنها ليست ضمن خطة عمل المحافظة».

لكن المحافظة التي أعلنت استثمارها للمشروع عبر مديرياتها دون شريك بعد ست سنوات من أول طرح للاستثمار، تركت المجال مفتوحاً في المستقبل لافتتاح مطعم خاص عبر أحد المستثمرين الخاصين، بقول الحلباوي «من الممكن منح رخص استثمارات طارئة فيما بعد»، محدداً نهاية العام موعداً لانتهاء الأعمال في مشروع التأهيل، مايشير إلى إمكانية طرح استثمار خاص لمطعم في الحديقة لكن بعد التأهيل!.

وعدا عما تم نفيه من فعاليات ضمن المشروع ، طرح الحلباوي تعديلات جديدة وضعتها المحافظة، حيث قال الحلباوي «ابتعدت المحافظة عن موضوع الاستثمارات والأمور المأجورة، وتمت الاستفادة من تأخر الدراسة، بحيث تم لحظ عدة أمور منها إيجاد دورات مياه مخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة، وتأهيل بحيرات المياه والبط، وإنشاء مضمار للمسنين، ومساحة تزلج للشباب، إضافة لألعاب مخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة، وكلها غير مأجور»، ما يشير إلى تحول المشروع إلى كماليات.

وهذه التصريحات، مخالفة لما أعلنه عضو المكتب التنفيذي لقطاع التخطيط والموازنة في محافظة دمشق فيصل سرور، الذي قال سابقاً «إن العقد المبرم مع المستثمر (الذي هرب) يتضمن تزويد الحديقة بألعاب للأطفال وإقامة مطعم صغير وإنشاء مرآب طابقي وقبو تحت الأرض».

المحافظة: نحن من أوقف المستثمر!

فسخ العقد مع المستثمر السوري نتيجة هربه من البلاد، كان أيضاً منفياً بالنسبة لتصريحات محافظة دمشق الجديدة، التي أكدت بأن المحافظة هي من فسخ العقد،  لتستمر التناقضات بين تصريحات مسؤوليها، وبحسب الحلباوي «كان من المقرر أن يقوم مستثمر سوري بتنفيذ مشروع إعادة تأهيل حديقة السبكي، إلا أن بدء الأزمة في سورية وما تبعه من قفزات في الأسعار، استدعى توقف المستثمر بطلب من المحافظة، بهدف تطوير الدراسة المعدة، وهذه العملية استمرت منذ العام 2011 لحين فسخ العقد مع المستثمر في بداية العام الحالي، وذلك لتفاصيل عقدية تتعلق بعدم تسليم الموقع وعدم المباشرة بالتنفيذ».

هنا يضع الحلباوي، أمور تطوير المشروع و»القفزات السعرية» سبباً لتعطل الأعمال لسنوات وفقاً لدراسة، وربما يريد التلميح هنا لهروب المستثمر، الذي لم يعترف به نهائياً، بينما أكده عضو المكتب التنفيذي لقطاع التخطيط والموازنة في محافظة دمشق فيصل سرور سابقاً.

وعن مدة العقد الموقع مع المستثمر السوري وقيمته، قال الحلباوي «كانت مدة العقد 180 يوماً، وقيمته في العام 2011 حوالي 80 مليون ليرة سورية»، وهذا الرقم قبل التعديل عليه.

أين الإسكان العسكري؟

الحلباوي نفى وجود أي دور لمؤسسة الإسكان العسكري بمرحلة من مراحل الاستثمار، عكس التصريحات السابقة التي كانت تؤكد ذلك، قائلاً «محافظة دمشق أخذت على عاتقها تنفيذ المشروع، بحيث تعتمد على إمكانياتها فقط، وتعمل على أربعة محاور أساسية هي خزان ودورات المياه، وتحويل الملجأ الموجود إلى مركز خدمة بحيث يتواجد فيه المختار وتتمكن الفعاليات في تلك المنطقة من دفع فواتيرها، إضافة للعمل على تجهيز بحيرة المياه».

المحافظة لم تنف فقط دور مؤسسة الإسكان العسكري، ووجود مطعم، أو هروب المستثمر، وقد طال النفي بداية المشروع من أساسه عام 2010، حيث قال حلباوي «في البداية كان مخططاً أن تستلم المشروع شركتان قطرية وماليزية وفق نظام الـ BOT، لكن الموضوع أُلغي، وتم تسليمه لمستثمر سوري»، علماً أن الشركتين استلمتا المشروع، وبدأتا في الدراسة على أكثر من حديقة، وكانت الخطة حينها بناء مرائب طابقية فقط، حتى اندلعت الأحداث في البلاد.

حديث الحلباوي، يلقي الضوء على تناقضات صارخة في عمل المحافظة، وعلى عدة مشاكل مع المستثمرين، ومن بينهم مؤسسة الإسكان العسكري التي تسلمت العقد، لكنها لم تعمل به، إضافةً إلى حديثه الذي يشير إلى أن المحافظة اختصرت الغاية الأساسية التي طرحت من أجلها الاستثمارات بداية، وهي المرائب الطابقية، والمطعم لاحقاً، وبقي تأهيل الحديقة المستمر دون انتهاء منذ 6 سنوات تقريباً، مختصراً على أمور كمالية لم تكن الحديقة بحاجتها، أو بحاجة كل تلك الأموال التي ستصرف عليها بظل الظروف الاقتصادية الراهنة.

توثيق التناقضات من البداية 

لم يكن خافياً على أحد نوايا محافظة دمشق، عندما أعلن عبد الله عبود مدير هندسة المرور والنقل في محافظة مدينة دمشق، (وهي الجهة التي نظمت الاستثمار الأول للحدائق العامة)، منذ عام 2010، أن هناك مشروع استثمار خاص، مطروح ضمن الحدائق العامة، مؤكداً أن «مشروع المواقف المأجورة سيتبعه مواقف طابقية في مرآب المدفع وتحت حديقة السبكي وعرنوس وشارع الملك العادل سيتم بناؤها، إضافة لساحة التحرير ومناطق أخرى بمبدأ المحافظة على المساحات الخضراء وبناء المواقف الطابقية تحت الساحات والحدائق، وهناك الآن دراسات مع شركة الديار القطرية والشركة الماليزية ما إن تنتهي الدراسة ستريح هذه المواقف الطابقية المواقف المأجورة والحركة المرورية معاً».

تحويل الحديقة لمنتجع

ومع بداية الأحداث، انسحبت الشركتان مالم تعلنه المحافظة حينها، لكن بدا ذلك واضحاً، حينما تم تسليم مشروع استثمار الحدائق لمستثمر سوري خاص عام 2011، لكن مع تعديل على المشروع، بشكل  يتيح للمستثمر جعل الحديقة أقرب إلى منتجع مأجور، وحينها تعرضت المحافظة لهجوم حاد من الصحف.

وفي أيار العام الجاري، خرج عضو المكتب التنفيذي في محافظة دمشق فيصل سرور، ليؤكد أنه تم توقيع عقد مع مؤسسة الإسكان العسكرية لاستكمال تأهيل حديقة السبكي،  مع العلم أن العقد يتضمن تزويد الحديقة بألعاب للأطفال وإقامة مطعم صغير وإنشاء مرآب طابقي وقبو تحت الأرض، مؤكداً أن المحافظة قامت مؤخراً  بترحيل الأتربة من الحديقة لإعداد المشروع، علماً أن الأتربة حينها بقيت في مكانها.

وأكد أن العقد المبرم مع أحد المستثمرين، تم فسخه بسبب سفر المتعهد إلى خارج سورية من دون سابق إنذار وتتم حالياً ملاحقته قضائياً وتم توقيع عقد جديد مع مؤسسة الإسكان العسكرية لاستكمال تأهيل الحديقة.

هنا تبين أن العقد مع ذلك المستثمر تضمن عدة إضافات عن أول طرح للمشروع، منها مطعم صغير، مايعني أن الحديقة ستتحول من حديقة عامة إلى خاصة تقريباً، لكن لم تبرر محافظة دمشق حينها، تعليق أعمال الإنجاز المحددة بالعقد بـ 180 يوماً التي انتهت ولم ينته مشروع تأهيل الحديقة، واستمر الحال المزري للحديقة حتى يومنا هذا، ليتم الإعلان عن هروب المستثمر منتصف 2015!.

أخيراً ..

لا يسعنا إلا أن نقول، إن العبث بالأملاك العامة لم يعد مقتصراً على البعض من الخارجين عن القانون، عبر التعدي عليها لمصلحته، بل بات أمراً تقوم به محافظة دمشق بالتعدي على حدائق العاصمة كملكية ذات نفع عام، بكل استسهال، ضاربة عرض الحائط بأهمية تلك الحدائق كرئة ومتنفس لدمشق وساكنيها، ومحولة إحداها إلى «أي شيء»، باستثناء كونها حديقة، بذريعة التحسين والاستثمار.

لماذا هرب المستثمر؟

سبب هروب المتعهد غير معلن، وحتى أن محافظة دمشق أنكرته مؤخراً، إذن، تصريحات المحافظة حول حديقة السبكي، كانت غير دقيقة أو غير مسؤولة، والعقد المبرم لاستثمارها طاله أكثر من تعديل، وأكثر من جهة مستثمرة، آخرها مؤسسة الإسكان العسكري، التي أكد مصدر لـ»قاسيون» من المحافظة، أنها هي الأخرى تركت المشروع، لتتحول الحديقة على مدار 6 أعوام إلى «خرابة».

وفي متابعة لمراسل «قاسيون» مع بعض الصحفيين المتابعين للقضية مع محافظة دمشق، تبين أن المحافظة لاتريد حالياً التحدث عن مشاريع استثمار الحدائق الأخرى التي وردت ضمن العقد الأول مع الشركتين الماليزية والقطرية، وهي تريد حصر الحديث بحديقة السبكي فقط، بعد أن عدلت كل البنود في العقود التي طرحت على المستثمرين، لتأخذ المشروع بنهاية المطاف لمصلحة مديرياتها، وهنا بدأت التناقضات تظهر، وبدأت المحافظة تنفي عدة تصريحات سابقة، من هروب المستثمر، إلى الفعاليات المزمع إقامتها على أرض الحديقة، وصولاً إلى دور مؤسسة الإسكان العسكري.