من الذاكرة: المِهار العرابيد
قبل أكثر من مئة عام خطت يد أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدة «صحبة المكتب» صور من خلالها أيام الطفولة الغالية والعزيزة على قلب كل إنسان. تلك المرحلة التي مر بها كل منّا, حيث تظهر فيها شيئاً فشيئاً معالم اشتداد الساعد والعود، وبدء نمو الشخصية.. وحديثي اليوم عن ذكرى من ذكرياتها الظريفة, حين بدأت وأنا في الصف الرابع الابتدائي تعلم ركوب «البسكليت» ذلك الحدث «الكبير» في حياة الأولاد,
فقد كنت أنفق «الخرجية» على استئجار الدراجة من البسكليتاتي «أبو شريف» ولكن ليس بشكل مباشر, بل عن طريق صديق أكبر مني سناً, ساعدني ودرّبني على قيادتها, وكم مرة سقطت فيها مع الدراجة وتحملت الكثير من الألم, وبخاصة عندما لم تكن رجلاي بطول يسمح لهما بإدارة «دواسات البسكليت» دورة كاملة, وأكتفي بنصف دورة, وبعد تمكني من القيادة في أزقة الحارة, اتفقت مع صديقي يوسف على القيام «برحلة» خارج الحارة, فاستأجرنا دراجتين لمدة ربع ساعة, وانطلقنا بهما عبر منطقة «الصيبات» إلى دخلة جامع النابلسي فالجبة فالجسر الأبيض ومنه عبر طريق الصالحية إلى بوابتها -ساحة يوسف العظمة أمام المحافظة- وهناك استرحنا لدقائق وشربنا الماء من الفيجة القائمة قرب مدخل بناء رابطة المحاربين القدماء، حيث يعمل صهرنا الطيب الفعل والذكر الشركسي عبدالله أبو حسن على يسار شارع 29أيار, ذلك البناء الذي أزيل وينتصب اليوم مكانه بناء التأمينات. ثم تابعنا المشوار إلى السبع بحرات قبل أن ينشأ بناء بنك سوريا المركزي فشارع بغداد حتى منطقة القزازين, لنعود بعدها إلى حارتنا في رحلة استغرقت ساعة ونصف, ولأننا لا نملك إلا أجرة «ربع ساعة» اضطررنا أن نترك الدراجتين بجانب دكان بائع الفول, على مسافة قليلة من محل «أبو شريف» وتوارينا عن الأنظار.. في تلك الأثناء كان أبو شريف «يمشط» الحارة على دراجته بحثاً عنا دون جدوى. والمهم أنه بعد أن علم بوجود الدراجتين قرب الفوال أعادهما إلى محله بعد أن «فحصهما» ووجدهما سالمتين ثم اتجه إلى بيتنا وبيت الصديق يوسف ليبلغ أهلنا بما فعلناه, ويتلقى من الأهل اعتذارهم وأجرة الدراجتين. وفي المساء عندما عدت إلى البيت كان والدي في «استقبالي» وبدأ تأنيبه العنيف الذي تحول إلى «قتلة معس» كلما تذكرتها أحس بمرارة تحت لساني. وتتراءى في عين خيالي كلمات قصيدة «صحبة المكتب» وبخاصة البيت المحفور في ذاكرتي:
«ويا حبذا صبية يمرحون
عنان الحياة عليهم صبي.. »