جفاف بردى يهدّد «البيئة»... من شريان الحياة إلى مرتع للحشرات والأوبئة والمياه الآسنة!
ارتبط ارتباطاً وثيقاً برائحة ياسمين دمشق، وكان أحد رموزها المعبرة عن نضارتها وخضرتها وخصوبتها، نهر «بردى» الذي كان يغذي دمشق بمياه الشرب على مر السنين، أصبح اليوم بنظر الكثيرين من سكان العاصمة السورية «مبعثاً للروائح الكريهة والحشرات، وبعض فروعه تهدد بأوبئة بيئية».
ومع دخول فصل الصيف، بدأت معاناة المواطنين القاطنين بالقرب من أفرع نهر بردى بالظهور، وكانت أغلب الشكاوى متعلقة برائحة مياه النهر التي اختلطت بمياه الصرف الصحي، وأصبحت مليئة بالنفايات، ومرتعاً للحشرات الضارة.
نفايات وحشرات وأوبئة
وبحسب بعض أهالي منطقة ركن الدين، والتي يمر بها فرع من فروع نهر بردى الستة ويدعى «يزيد»، فإن حال هذا النهر بات ميؤوساً منه، ولا يمكن أن تساعده حملات التنظيف التي قد تقوم بها البلدية بين الحين والآخر، وأكد الأهالي بأشن «حال النهر يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وقد زاد ازدحام المنطقة بالنازحين، من تلوث النهر بالنفايات».
وتابع الأهالي إنه «يمكن لأي شخص يمر من منطقة ركن الدين أن يرى أنابيب الصرف الصحي التي تصب بمجرى النهر بصورة مشرعنة من قبل المعنيين، وهذا يهدد بيئة المكان من حيث انتشار الأوبئة عبر الحشرات الضارة التي جعلت من النهر مرتعاً لها كونه غير مغلق».
وأردفوا قائلين «إن كانت محافظة دمشق غير قادرة على وضع حد لأنابيب الصرف الصحي هذه، وتنظيف النهر بشكل يومي، عليها اليوم سقف النهر للحد من روائحه الكريهة التي تؤرق السكان طيلة فصل الصيف، ما يحد من الحشرات التي غزت المنطقة بالآلاف».
مطالبات للحد من الكارثة
«يزيد» ليس معزولاً أو مفصولاً عن باقي بردى، ما يؤكد تلوث النهر بشكل كامل، وينذر بـ«كارثة» تخوف منها الكثيرون في دمشق، وهي تسرب مياه النهر الملوثة إلى أنابيب مياه الشرب القادمة من نبع «الفيجة» والذي يغذي كل دمشق.
أشكال تلوث مجرى نهر «بردى» لم تقف فقط على أنابيب الصرف الصحي التي تصب حالياً ببعض فروعه، ففي قلب العاصمة دمشق، بمنطقة شارع الثورة، تقوم المعامل الصغيرة والورش برمي فضلاتها داخل النهر دون أي رقابة تذكر، عدا عن مساهمة المواطنين برمي فضلاتهم بمجرى النهر.
وبنظر الكثير من سكان دمشق، فإن صورة نهر «بردى» بقلب العاصمة على هذه الشاكلة أصبح مخجلاً، وخاصة للزوار القادمين من خارج البلاد، والذين قرأوا أو سمعوا عن تاريخ هذا النهر العريق حين كان «شريان الحياة بدمشق»، وطالبوا محافظة دمشق بسقفه.
أين البيئة والمحافظة من كل هذا؟
وفي زيارة لصحيفة «قاسيون» إلى المحال التجارية الواقعة قرب قلعة صلاح الدين بدمشق، كانت الحشرات تتطاير بكثافة، وبحسب أصحاب بعض المحلات فإن «هذه المعاناة موجودة منذ سنوات طويلة، إلا أنها تفاقمت في الوقت الراهن نتيجة قلة رش المبيدات الحشرية، ما ساعد على انتشار هذه الحشرات الطائرة بشكل مخيف».
وتابعوا «تتحمل المعامل الموجودة في المنطقة جزءاً من مسؤولية تلوث النهر وإيصاله لهذه الحالة، إلا أن محافظة دمشق متهمة بالتقصير الأكبر، لعدم ردع هذه المعامل، وعدم رش المبيدات، أو حتى اغلاق النهر وتحويله لمجرى صرف صحي، وعدم المغالاة وضرب المثاليات بأن بردى عاش أو سوف يعيش».
وأضاف أحد أصحاب المحلات لبيع الأحزمة الجلدية مفضلاً عدم الكشف عن اسمه إن «حملات (عاش بردى) وما إلى ذلك من شعارات، لم تؤت بنتائج فعّالة، وكان من الأفضل أن تنفق المحافظة ووزارة البيئة أموالها على حلول أكثر منطقية للحد من تلوث النهر والكارثة البيئية التي يسببها حالياً بعد أن كان معلماً بيئياً في السابق».
لم يعد نهر «بردى» يعني للكثيرين سوى الاسم، وإن كان الوضع الراهن يتطلب سقفه، فَلِمَ لا يتم ذلك وسط عجز تام من قبل المعنيين على إعادة انعاش هذا الشريان العليل؟، بحسب بعض التساؤلات التي طرحها مواطنون على صحيفة «قاسيون».
«بالعينات» بردى ملوث ويهدّد..
وبحسب الدراسات الرسمية التي أجريت أواخر عام 2013 من قبل وزارة البيئة، والتي اعتمدت على عينات مأخوذة من مياه النهر على طول مجراه بقلب العاصمة دمشق، والتي بدأت من منطقة «المزة» عند مشفى الأطفال مروراً بمنطقة «الروضة» ثم «الميسات» مقابل وزارة التربية فجسر «فكتوريا» وأخيراً إلى قلعة «دمشق» حيث الحديقة البيئية، فإن جميع المواقع التي تمت زيارتها وعلى امتداد النهر في مدينة دمشق فيها انخفاض لمنسوب المياه وتحول النهر لساقية سريرها مليء بالأوساخ الصلبة الواضحة للعيان، كما تطفو بعض المواد الصلبة على سطح المياه وتظهر الطحالب كما كان ملاحظاً في منطقتي «الروضة» و«الميسات».
وخلصت الدراسة إلى أن مياه فروع نهر بردى في مواقع قطف العينات تصنف على أنها عديمة الجودة وفائقة التلوث والخطورة على الإنسان والبيئة وعديمة الصلاحية من الناحية التطبيقية، ويعزى الانخفاض الكبير لقرينة الجودة إلى ما دون الصفر بقيم تجاوزت الـ 100 تحت الصفر إلى الارتفاع الشديد لتراكيز «COD» و«BOD» إلى أكثر من ستة أضعاف القيّم الحدية في قرينة الجودة، كذلك يعزى إلى ارتفاع تراكيز عصيات الكوليفورم البرازي لضعفين أو ثلاثة أضعاف القيم الحدية علماً بأن جميع المؤشرات المذكورة أعلاه هي مؤشرات للتلوث بمياه الصرف الصحي.
مرسوم لإنقاذ النهر
وبدوره، قال المهندس باسل الغفاري مدير الموارد المائية في دمشق وريفها عبر حديث اذاعي مؤخراً، إنه «تمت معالجة مطبات الصرف الصحي بالقرى الواقعة على نهر بردى من المنبع حتى عين الخضراء، وتم تجهيز محطة للصرف الصحي، وحالياً يتم التحضير لمحطتين للصرف الصحي إحداهما بجمرايا».
وأكد الغفاري على أن «بعد عين الخضراء مياه نهر بردى غير قابلة للشرب، فنهر بردى بعد ذلك عبارة عن مياه صرف صحي، وتعتمد دمشق حالياً على نبع الفيجة بالكامل بمياه الشرب» نافياً ان تكون مياه الشرب في دمشق وريفها ملوثة، مؤكداً أنها «مؤمنة تماما».
وتابع «نحن الآن بصدد تعديل القانون المائي، ونعد لمرسوم لتركيب محطات معالجة مركزية، والتي ستكون السبب في تنقية مياه النهر وتخفيض نسبة التلوث بنسبة جيدة».
حبر على ورق
ولا تزال العديد من المناطق في دمشق تطرح مخلفاتها إلى النهر ولم يتم وصلها مع محطة معالجة «عدرا» بسبب انخفاض منسوبها عن منسوب شبكة الصرف الصحي ومنها منطقة «المزة- بساتين»، من جهة ثانية فإن النهر عادة ما يتلقى الفائض من محطة معالجة «عدرا»، أما في الآونة الأخيرة فقد أصبح يتلقى كامل الصرف الصحي الذي يرمى إلى النهر وينتهي في العتيبة نتيجة توقف العمل في محطة معالجة دمشق خلال الأزمة.
ووضعت وزارة البيئة بعد دراستها العام الماضي، جملة من التوصيات للحد من تلوث نهر بردى وفروعه منها التأكيد على جميع المنشآت السياحية والمطاعم والمقاصف والمقاهي على طول نهر بردى ولاسيما في منطقة الربوة للعمل على عدم صرف مخلفاتهم السائلة إلى النهر بل إلى شبكة الصرف الصحي، وتم توجيه كتاب لوزارة الموارد المائية والطلب منهم العمل على إيجاد حلول محلية لمعالجة مياه الصرف الصحي للتجمعات السكانية الواقعة على طرفي النهر كمحطة معالجة صغيرة وذلك للتجمعات السكانية الواقعة في الحبس الأعلى لنهر بردى ابتداء من النبع وحتى مدخل بردى إلى حدود دمشق.
وتم توجيه كتاب لوزارة الإدارة المحلية للعمل على تعزيل النهر من الأشنيات والنفايات المرمية على مجراه ضمن المدينة للمحافظة على نظافته وخلوه من النفايات، إلا أن هذه الكتب بقيت حبراً على ورق، والنهر مازال يعاني الاهمال ويهدد البيئة بخطورته.