سراج الكاز.. عودة الضوء الأول! السيرة المملة جداً لحكاية الكهرباء في سورية
بفتحتي أنف دائمتي السواد كان (محارب) يأتي إلى المدرسة، وعندما يضطر للعطس كان (الشحوار) ينهمر من حلقه وعينيه وأنفه، ومحارب هذا ولد سنة النكسة 1967، وكنا حينها في الصف الرابع أي في العام 1977، وأما السبب كما اكتشفنا حينها أن الولد ينام وسراج الكاز في غرفة نومه، وأن أمه في الصباح كانت من كثرة الأولاد لا تجد الوقت لتنظف له أنفه.
لا تثير ذكرى سراج الكاز في مخيلتي سوى صورة أنف مسّود من داخله، وها هي تعود مع موسم التقنين الطويل الذي يخيم بسواده على أجزاء كبيرة من العاصمة، ومساحات لا تنتهي من الريف.
بالأمس عادت الذكرى أقوى من ذي قبل فعلى الرصيف الموازي لكلية الحقوق انتشر باعة أسرجة الكاز، وقد فصلوا الزجاجات عن خزانات الوقود، وأما الفتيل الأبيض النظيف فمنضد فوق بعضه كأفاع صغيرة.
كهرباء متقاطعة
قصة الكهرباء في سورية ذات شجون وإن وجدت مبررات مرحلية حكومية دائمة لحالة عدم استقرارها، أو تعرض شبكتها للاعتداءات بالتوازي مع مشاكل أخرى اختلطت بسبب سوء إدارتها والإدارات الأخرى في وزارات تتقاطع على الأرض مع الكهرباء كوزارة الإدارة المحلية، والنفط.
وقد حملت الأزمة التي تعيشها البلاد لواقع الكهرباء منغصات جديدة مما أثقل على الشبكة من مشكلات، وأدى إلى العمل بالتقنين الطويل في غير وقته، وبالتالي استمر الاعتداء على الشبكة هذه المرة بشكل أكبر وأقسى، وسمحت أزمة المازوت والغاز بأن يتحول المواطن للتدفئة على الكهرباء، واستجرارها بشكل كبير وغير شرعي، وهذا ما ضاعف من أعطالها، وحجم فاقدها الكبير.
المواطن الذي لم يستطع تحمل الساعات الطويلة من التقنين التي فرضتها وزارة الكهرباء، والأزمات التي اجتمعت دفعة واحدة أخذته إلى سوق البدائل، والبحث عن إنارة بيته، وتدفئة أبنائه بالوسائل التي أتاحتها الأسواق، وهي بدورها وجدت في مواطن مطفأ زبوناً جاهزاً.
المولدات.. طبقات
الشواحن الصينية التي لم تستطع إنارة ليالي الطلاب الذين يحضرون لامتحاناتهم، وسقط الأهالي في أمرين أهونهما مر، إما رسوب الأولاد أو زيارة طبيب العيون، وهذا ما حدا بالكثيرين للبحث عن مصدر ضوء لا يضرّ، وكذلك يتناسب مع قدرتهم المادية على تأمينه.
السوق التي تحسست حاجة الناس بدأت بنشر مولدات من استطاعات مختلفة، وبقياسات حسب ما في الجيب، وهذا منحها أعلى أرقام المبيعات في السوق، ووصلت الأسعار في سوق المولدات للاستعمال المنزلي حسب الاستطاعة، فمن 700 – 2000 شمعة تراوح سعر المولدة بين 6000 – 8500 ل.س.
في الطرف الآخر كانت حاجة أصحاب المحال التجارية الذين لم يستثنهم التقنين أكبر، وخصوصاً أن أسواق كبيرة كالحمراء والصالحية تنقطع فيها الكهرباء في وقت الذروة، وبلغت أسعار المولدات التي تجاوزت استطاعتها أكثر من 5000 شمعة بين 13 – 22 ألف ل.س.
للميسورين طاقتهم
أما الذين لا تعجزهم الأزمات من الميسورين المتناقصين باطراد، فقد ذهبوا إلى توليد الطاقة دون صوت ولا ضجيج، والشوارع التي يقطنونها لم يفسدها التقنين ببدائله، بل استمرت في هدوئها وسكينتها.
الطاقة الشمسية زاد طلبها لتوليد الكهرباء البديلة، ولم تتبدل عليهم الأنوار، وإضاءات الزينة والحدائق الواسعة، وشهدت المدن الرئيسية إقبالاً منقطعاً على شراء ألواح الطاقة الشمسية بنسب عالية وصلت ما بين 40- 60% مع تصاعد وتوسع رقعة التقنين وساعاته.
الفقراء، أو معظمهم تجنباً للمبالغة، لم يسمعوا حتى الآن بهكذا نوع من الطاقة، وربما سيمر وقت قبل أن تنار عقولهم ويعرفوا أن الظلمة التي تعيشها أذهانهم قسراً أشد قتامة من الأحياء التي يسكنون فيها..
انعكاسات اقتصادية
المواطن ربما تكون أضراره المادية نتيجة التقنين الطويل ليست كبيرة جداً، وإن اشتكى وبكى لن يجد في العتمة سوى صدى صوته، ولكن التاجر صرخ بصوته المسموع دائماً بما تلحقه المشكلة من أضرار، وهو بذكاء يربطها بضرر أكبر هو اقتصاد البلاد والعباد.
الانقطاع طال بضرره قطاعات اقتصادية مثل الأغذية التي يتم تخزينها في برادات كبيرة تحتاج إلى استطاعات بحدود عالية من أجل حفظها من التلف وهذا ما لم يكن ممكناً تأمينه من السوق المحلية، فاللحوم والأسماك والفواكه والخضروات. قطاع الأدوية وهو من القطاعات الحساسة لم يسلم من الضرر وخصوصاً الأدوية الرئيسية التي تتطلب عناية فائقة وضرورة توافرها دائمة بحالة سليمة، وتتطلب درجات حرارة ثابتة كاللقاحات وأدوية مرضى السكر والكبد وغيرها.
المؤسسات الاستهلاكية، ومستودعات الخزن الكبيرة التابعة للدولة، ومنها مراكز البيع بالجملة والتجزئة ومخازن التبريد ، وكذلك الخاصة التي يملكها المواطنون خصوصاً في الأماكن التي تزرع فيها فواكه مثل التفاح والكرز.
اختناقات.. وحرائق.. وضجيج
شهدت بعض مناطق الريف حوادث متفرقة بسبب التعامل الجديد مع المولدات، وهذا ما أدى إلى اختناقات لدى البعض بسبب وضع المولدة في أماكن مغلقة وقريبة من أماكن المنامة، أو أثناء إعادة ملء خزاناتها بالبنزين، وكون هذه المولدات تطلق غازات قاتلة كثاني أكسيد الكربون وبالتالي فاستنشاقه قد يؤدي إلى إغماءات وفقدان للوعي.
وفي أماكن عدة حدثت حرائق عندما كان البعض يملأ البنزين بطريقة خاطئة على سبيل المثال أحد المواطنين يملأ خزان المولدة وهو يدخن مما أدى إلى إصابته بحروق متوسطة، ولولا وجود شقيقه الذي سارع لنجدته وتغطيته بغطاء مبلل بالماء لكان في عداد ضحايا المولدات.
الأذى الأكبر الذي تسببه المولدات هو حالة الضجيج الهائلة التي تسببت في بعض الأحيان بمشاجرات بين الجيران، ويشكو المواطنون الذين يسكنون في أسواق مزدحمة من عدم نوم صغارهم، ومن ضجيج مزعج يجعل من غير الممكن ممارسة حياة طبيعية خصوصاً أصحاب الأعمال الشاقة الذين يحتاجون إلى الراحة.
ذات يوم عن الخصخصة
أوقفت الأزمة مشاريع كانت قد وضعتها حكومة السوق المفتوحة في أجندتها الطويلة لاقتصاد المواطن فيه زبون بكامل المواصفات، وجرى الحديث عن شرائح للدفع والبيع، ومحطات توليد خاصة إما تبيع المواطن مباشرة، أو تبيع الدولة التي بالتالي سوف تبيع المواطن.
وقد حذر حينها خبراء ومتخصصون من الآثار الجسيمة التي ستلحق بالمواطن أولاً وبالاقتصاد السوري ثانياً من تبعات خصخصة الكهرباء، وتحويلها إلى استثمار.
ومن بين الذين وجهوا تحذيرات وصلت إلى وصف الآثار الناجمة عن خطوة استثمار الطاقة معاون وزير الكهرباء حينها الذي قال: (إن قضية تحرير الطاقة ليست قضية سهلة بل ستؤدي إلى منعكسات اجتماعية واقتصادية وسياسية يجب أخذها بعين الاعتبار فضلا عن نتائج كارثية محتملة في حال التحرير الكامل لسوق الطاقة، كما في الكثير من الدول المتقدمة).
وبرر حينها عبد الحليم قاسم تحذيراته إلى جملة عوامل ترتبط بالنفط، وأسعاره، وعدم وجود المستثمر القادر على دفع التكاليف الهائلة لاستثمار كهذا: ( إن مشاريع الطاقة هي مشاريع مكلفة جداً، لأنها مجموعة معامل لا تقل كلفتها عن 800 مليون يورو، فأين هذا القطاع الخاص القادر على استثمار 800 مليون يورو على أمل استردادها من الكيلووات الساعي؟، فضلاً عن أن هذا النوع من الاستثمار له علاقة مباشرة بالنفط المحلي والمستورد، وأسعار النفط تتجه اليوم إلى مزيد من الارتفاعات مما يعني أن العملية ليست مضمونة حتى الآن.
فماذا لو فعلتها حكومة اقتصاد الخصخصة في ظل أزمة الوقود الحالية، والعقوبات التي طالت القطاع النفطي، وفي ظل الحالة الاقتصادية الخانقة للاقتصاد الوطني، والمواطن الذي يطارد المازوت والكهرباء والغاز.؟
أما وزارة الكهرباء فماذا ستفعل بتكهناتها عن حجم الطلب على الكهرباء في السنوات العشر القادمة، وكانت قد توقعت وصول الطلب على الطاقة في سورية عام 2010 إلى 50 مليار كيلو واط ساعي، وهذا يعني حاجتها إلى 10 ملايين طن فيول وغاز مكافئ لإنتاجها، وأن يرتفع عام 2020 إلى 90 مليار كيلو واط ساعي تحتاج إلى 16 مليون طن وقود مكافئ لإنتاجها.
ثقافة الترشيد..معاً
تحدث الأعطال البسيطة فيعيدها العاملون في صيانة الشبكات وعمال الطوارئ إلى زيادة الطلب في المساء، وتحميل كبير يقع على الشبكة، وأحد العاملين عندما راجعه المواطنون لأكثر من مرة عن انقطاعات عديدة قال لهم: ماذا أفعل هل أسحب سخانات الكهرباء من بيوت الناس، ففي كل مرة نوازن (قاطع) الشبكة على حمولة معينة نفاجأ بزيادة السحب وهذا ما يؤدي إلى عدم قدرة الشبكة على تحمل الطلب.
مدير عام مؤسسة كهربائية تحدث عن دور قادم لمؤسسته في وضع خطط لتثقيف المواطنين والمؤسسات كهربائياً: ( إن المؤسسة وضعت خطة لترشيد واستهلاك الطاقة، وتقوم بالتعاون مع المركز الوطني لبحوث الطاقة بحملة إعلامية لترشيد استهلاك الطاقة تحت شعار (معاً لترشيد الطاقة) تهدف لنشر مفاهيم الترشيد ورفع كفاءة استخدامها).
المدير يتحدث عن ندوات تلفزيونية، وإعلانات في الإذاعة والتلفزيون، ونشرات ورقية، وملصقات، ومواد صحفية متنوعة لتوعية المشتركين بضرورة ترشيد الطاقة، ولكن السؤال الذي يوجه للسيد المدير العام ترى ماذا أجدت كل إعلانات توفير الكهرباء، واستخدام المصابيح البديلة؟، ومن سيمنع موظفي القطاع العام والخاص من تسخين أباريق (المته) الصباحية؟، ومن استطاع أن ينزع أسلاك الكهرباء الممدودة من الشرفات على خطوط التوتر المتوسط من تجمعات العشوائيات في العاصمة دمشق؟، ومن يا ترى هم المساهمون بالعبث بعدادات الكهرباء، وخبراء سرقة الكهرباء من خلفها؟.. أليسوا هم بعض موظفي وزارة الكهرباء؟.
في التحصيل والتأشير
منذ وقت طويل والوزارة تتحدث عن قرب استخدام التأشير الآلي، والقراءة الآلية للعدادات بواسطة أجهزة (هاند هيلد يونت) كبديل عن المؤشر البشري الذي يقدر الاستهلاك حسب العادة أو المحسوبيات.
كم مؤشراً تم توظيفه بعقد موسمي وخرج (خصوصاً في الريف) بسيارة فخمة ومطروداً من خدمته، وكم ابتكر هؤلاء من طرق لإضاعة المال العام، واكتفت الوزارة بعدم تجديد عقودهم، وبعضهم استمر بعمله حتى اليوم، ويكشف على العدادات متنقلاً بسيارته الجديدة؟.
أما عن التحصيل فلا يخفى على أحد أن الفواتير الكبيرة التي يتم تجميعها باستغفال المواطن بفواتير برسم العداد (50) ليرة فقط تسوّى على مبدأ التشريح التي تخضع للتفاوض، وتخفيف المبلغ المطلوب إلى النصف مع عمولة لها وسطاؤها.
للتقنين إيجابيات!
يرى بعض المواطنين أن التقنين على سلبياته يعود ببعض الايجابيات على العلاقات الاجتماعية، وهذا ما انعكس على عودة العلاقة بين الأهل وأبنائهم، واقترابهم من مشاكلهم بسبب الوقت الطويل بانتظار عودة التيار، وأن الأولاد الذين كانوا يقضون منتصف النهار في مشاهدة التلفزيون اضطروا بسبب التقنين النهاري إلى متابعة دروسهم.. يا للمفارقة السورية!