ما يختفي خلف الاحتقان الذي تفجّر على شكل احتجاجات شعبية..  معظم الاستملاكات.. عمليات تشليح للمواطنين للمصلحة المتنفّذين والمنتفعين
يوسف البني يوسف البني

ما يختفي خلف الاحتقان الذي تفجّر على شكل احتجاجات شعبية.. معظم الاستملاكات.. عمليات تشليح للمواطنين للمصلحة المتنفّذين والمنتفعين

إن السياسات الخاطئة التي انتهجتها الحكومة المقالة في معالجة القضايا الحياتية للمواطنين في العقد الماضي، والتي هي امتداد واستمرار لملامح لم تكن معلنة وممنهجة سابقاً، كانت إحدى أهم الأسباب التي أدت إلى الاحتقان الجماهيري والغضب العارم المتراكم، الذي أدى بدوره إلى تفجير الحراك الشعبي الاحتجاجي الذي طالب بالإصلاحات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. 

إذ لم تكتف السياسات الاقتصادية التي اتبعتها الحكومة في العقد الماضي بإنتاج كل أنواع القرارات والقوانين التي ضيقت على المواطن سبل عيشه، وشردته وحرمته من أبسط أسباب الحياة الحرة الكريمة، بل استفادت أيضاً من القرارات والقوانين الصادرة في العقود السابقة، وسخّرتها وجيَّرتها لزيادة إذلال المواطن وتشريده، واغتصاب أرزاقه وأملاكه، ومن هذه القوانين الاستملاكات التي كان المقصود منها النفع العام، واستتر المستفيدون خلفها، ونفذوها خدمة للمصالح والمنافع الشخصية.

نماذج من استملاكات غير مدروسة

صدر عن مجلس الوزراء القرار رقم 1955 تاريخ 21/4/2006  القاضي باستملاك 147 عقاراً استملاكاً كاملاً، و107 عقارات استملاكاً جزئياً من مناطق العمارة البرانية والجوانية والعقيبة والأقصاب وباب السلام، وهي مناطق نظامية ويحمل شاغلوها سندات تمليك نظامية، وهي من أقدم أحياء دمشق، دون الأخذ بعين الاعتبار الواقع الاجتماعي والمعيشي لساكني هذه المنطقة وحرفييها الذين يعملون بالمهن اليدوية العريقة، وغالبيتهم من ذوي الدخل المحدود، وإن الذي ينتزعه منهم قانون الاستملاك هو أهم حق من حقوقهم ومصدر عيشهم الوحيد. وكذلك تم تنفيذ استملاكات جائرة في برزة والمهاجرين وغيرها.

الاستملاكات الأخطر لمناطق قابلة للاستثمار السياحي

يبدو أن استملاكات معضمية الشام وراءها ما وراءها، وهي سرقة لعقارات حولت أهلها من مالكين إلى أجراء، والكثير منهم دفع ثمن بيته مرتين، فبعد أن كان كلٌّ منهم قد جمع (تحويشة العمر) واستجمع كل قواه، جمعية من هنا وقرضاً من هناك، لبناء بيت يؤويه من التشرد، حتى يأتيه دفع الثمن مرة ثانية، إلى الشارع ودون تعويض، وهذه هي دائماً حال الأحياء السكنية العشوائية، تغض الجهات المعنية النظر عنها حتى تكبر وتنمو، وتقدم لها بعض الخدمات حتى يأتي وقت القطاف فينسلَّ الجميع ويتنصلون من مسؤولياتهم، تاركين المواطنين في مواجهة القادم تحت مسميات عديدة كالاستملاك والتنظيم والتطوير والتحديث العقاري، إلى كل العناوين البراقة. ولكن من المستفيد؟

في العام 2008 وعند فورة المشاريع الاستثمارية والعقارية، قامت محافظة دمشق بتخمين الأراضي المستملكة في المعضمية، بسعرها في عام 1985. وصحت الحكومة إلى ضرورة تنفيذ مرسوم الاستملاك رقم 2431 لعام 1985، الذي تم بموجبه استملاك 1564 عقاراً، وفتحت قرارات استملاك أخرى حتى وصلت المساحة المستملكة 33773 دونماً من أصل المساحة الإجمالية للمدينة والبالغة 42097 دونماً، أي ما يعادل 75% من أراضيها، وطالت بالضرر حوالي 35 ألف نسمة، علماً أن أهالي المعضمية البالغ عددهم حوالي 100 ألف يعتمدون على الزراعة كمصدر رزق وعامل استقرار، ولكن هذه الاستملاكات دفعت معظم الأهالي لترك العمل الزراعي، وتعطيل الأراضي والإنتاج الزراعي تدريجياً، مرغمين على البحث عن فرص العمل في القطاعين العام والخاص لسد الحاجة، مع ما يرافق ذلك من صعوبات وإذلال في مواجهة متطلبات تكاليف الحياة القاسية، والتي تزداد قسوتها يوماً بعد يوم. ونتج عن هذا الواقع الأليم انتشار كبير للبطالة بين صفوف أهالي المعضمية، خاصة وأن الجهات المستملِكة لم تعوض للفلاحين والقاطنين إلا الفُتات البسيط، حيث تم تقدير قيمة المتر المربع الواحد في البداية بمبلغ 10 ليرات سورية للأراضي البعلية، وسعر المتر المربع للأراضي المروية بمبلغ 240 ل.س، الأمر الذي أدى إلى امتعاض الأهالي واحتقان مزمن، ورفع أصواتهم حين سنحت الفرصة لهم للمطالبة برفع الظلم عنهم.

اعتراضات قديمة لم تُجدِ نفعاً

بدأت الاعتراضات والاحتجاجات على هذه الخطوة منذ القديم وتعالت أصوات أهالي المعضمية حتى وصلت آنذاك إلى مجلس الشعب الذي أصدر الكتاب رقم 1222/ص تاريخ 17/12/1988 القاضي بتوصيات خمس موجهة إلى محافظة مدينة دمشق، منها: ضرورة إعادة النظر بمرسوم الاستملاك رقم 2431 لعام 1985، والمطالبة بتوسيع المخطط التنظيمي لبلدة معضمية الشام بما يتناسب مع عدد السكان، ورفع الاستملاك عن تجمع النازحين وعن الأشجار المثمرة وعن المنطقة التي تمت تسميتها منطقة صناعية.

وصل الكتاب الصادر عن مجلس الشعب إلى محافظة مدينة دمشق فتجاهلته بتوصياته، وأصدرت قرارها رقم 47/م.ت تاريخ 12/1/1991 ليشمل إعداد 106 جداول تتضمن 43 مخططاً لتنفيذ الاستملاكات، التي شملت في ذلك التاريخ 11000 منزل مسكون، جميع أصحابها من الفلاحين وأصحاب الدخل المحدود من مدنين وعسكريين، وشملت الأراضي الزراعية المستملكة 120000 شجرة زيتون تمثل الدخل الحقيقي لأهالي المدينة. وقد جاء في كتاب الاعتراض على قرار الاستملاك الذي رفعته بلدية المعضمية آنذاك أن هناك مخالفات قانونية في هذه الاستملاكات، تتمثل في عدم أخذ موافقة الجهة الإدارية التي تتبع لها العقارات المستملكة، وعدم الحصول على موافقة اتحاد الفلاحين.

قوانين الاستملاك السورية الظالمة

نصَّ المرسوم رقم 20 لعام 1983 في مواده على أنه يجوز للوزارات والإدارات والمؤسسات العامة والهيئات الإدارية ولجهات القطاع العام، أن تستملك العقارات (المبنية وغير المبنية) سواء كانت ملكاً صرفاً أو ملكاً لوقف أو مثقلة بحق وقفي، وذلك لتنفيذ مشاريعها ذات النفع العام المنصوص عليها في هذا المرسوم التشريعي، والتي حددها بفتح الطرق الجديدة وتوسيع الطرق الموجودة أو تقويمها وإنشاء الساحات والملاعب والأسواق والحدائق العامة، وإنشاء دور العبادة والثكنات العسكرية والمطارات والمرافئ والسكك الحديدية والمخافر والمستشفيات والمدارس والجامعات، (والمنشآت الخاصة بحزب البعث العربي الاشتراكي والمنظمات الشعبية التي يتطلبها تحقيق مهام هذه الجهات) وبشكل عام جميع المباني والإنشاءات التي تخصص للأعمال العامة أو المنافع العامة.

ونص المرسوم في مادتيه الرابعة والسادسة صراحةً أنه يجوز للجهات الإدارية وللجهات المشرفة على الإسكان أو المختصة به استملاك العقارات لتخطيطها وتقسيمها إلى مقاسم معدة للبناء، بغية إنشاء المساكن الشعبية عليها أو بيعها للراغبين في إنشاء تلك المساكن، كما يجوز لوزارة الدفاع استملاك العقارات لإقامة التجمعات السكنية العسكرية أو لبناء المساكن لبيعها للعسكريين ولأسر الشهداء وللعاملين في وزارة الدفاع أو لجهات أخرى تحدد بمرسوم، كما يجوز للجهات الإدارية استملاك العقارات بغية إنشاء المناطق الصناعية وتخطيطها وتقسيمها واستثمار أو بيع المقاسم الناتجة عنها.

كما نص المرسوم في المادة /35/ الفقرة الأولى: إذا استملكت عقارات للنفع العام وخصصت في الواقع لذلك ثم زالت صفة النفع العام عن العقارات المستملكة فتعتبر تلك العقارات من الأملاك الخاصة للدولة، وتسجل في السجل العقاري باسم الجهة التي استملكتها ويحق لهذه الجهة التصرف بهذه العقارات بكل وجوه التصرف. وفي الفقرة الثانية من المادة نفسها: إذا كانت العقارات المستملكة التي زالت عنها صفة النفع العام ارضاً زراعية بالأصل وبقيت كذلك عند زوال النفع العام وارادت الجهة المستملكة التصرف بها بيعاً فيكون لمالكيها السابقين أولوية شرائها إذا قبلوا بالثمن الذي تحدده الجهة المستملكة.

عند تسعير العقارات يتم تسعيرها بطريقة ظالمة ومجحفة بما لا يناسب السعر الرائج في السوق لقيم العقارات في المنطقة المستملَك فيها، وفي حال عدم رضا المواطنين المستملَكة أراضيهم وعقاراتهم بالمبالغ المعروضة عليهم، يتم تبليغهم وإنذارهم بالصحف العامة (رفع عتب) وغالباً لا يعلم المواطنون بالتبليغ أو الإنذار، وتودع بدلات الاستملاك في المصرف لأصحاب الاستحقاق دون علمهم، فيسقط حق أصحابها بقبضها من المصرف بعد انقضاء خمسة عشر عاماً على إيداعها، فتُعاد إلى صندوق الجهة المستملِكة.

يجب احترام ملكية المواطن وكرامته

في معظم أنحاء العالم عندما تقرر دولة ما استملاك أرض أو عقارات تعود ملكيتها لأفراد من أجل إقامة مشاريع ذات نفع عام، أو شق طريق، فإن المبالغ التي تُدفع كبيرة ومجزية، لأن الدولة هنا تقوم بنزع إجباري لملكية فردية، أما في سورية فكل قوانين الاستملاك وتعديلاتها تبيح للدولة دفع بدل نقدي رمزي لا يساوي شيئاً يذكر من قيمة الأرض أو العقار المستملك، وغالباً ما يتم تشريد المواطنين وطردهم من العقارات المستملَكة بعد تجريدهم من إمكانيات الصمود في وجه هذه الحياة القاسية، وبذلك يصبح الاستملاك مصيبة تحل على رؤوس المواطنين تحت اسم القانون الذي يصبح أشبه بقانون احتلال يبيح مصادرة الأراضي والأملاك الخاصة، ويشرع التشريد وخربان البيوت.

إن الاستملاك يقع على العقارات سواء كانت أراض منظمة ومعدة للبناء أم أرض سليخ، وسواء كانت داخل المخطط التنظيمي أو خارجه، بينما هناك تعميمات شكلية صدرت عن رئاسة مجلس الوزراء بعدم اللجوء إلى استملاك الأملاك الخاصة للمواطنين إلا أن الذي حصل عكس ذلك في أغلب الأحيان ففي السنوات الأخيرة تم تنفيذ استملاكات بعد ثلاثين سنة من وقوع الاستملاك عليها، علماً أن قرار الاستملاك على عقار ما يسقط تلقائياً إذا لم ينفَّذ المشروع ذو النفع العام على هذا العقار خلال 25 سنة، وتقاضى البعض بدلات الاستملاك المذِلة وجاءت المبالغ المدفوعة لأصحاب الحقوق لا تساوي أكثر من 10% من القيمة الفعلية للعقارات المستملكة.

المواطن محمي بنص القانون

منتهك بالممارسة

إن مهمة الدولة أن تحقق عن طريق القانون نظاماً اجتماعياً عادلاً، وإن على الدولة ألا تسمح باستملاك أراضي وعقارات المواطنين دون وجه حق، وإذا حصل واستملكت عقارات للضرورة الاجتماعية القصوى التي تحقق النفع العام، فيجب حينها تقدير قيمة العقار الحقيقية على السعر الرائج ودفع الثمن فوراً كي يتمكن المواطنون من تأمين حياتهم ومعيشتهم وكرامتهم، أما الاستملاكات التي حصلت وسببت هذا الاحتقان في نفوس المواطنين ضد ممارسات الحكومات المتتالية، فهي انتزاع جبري للملكية الخاصة تحت اسم ضرورات الصالح العام والمنفعة العامة، وهو خروج على القواعد الأساسية التي توجب احترام ملكية المواطنين وكافة الحقوق الناشئة عنها والتي حماها الدستور السوري الصادر عام 1973، حيث جاء في المادة 15 منه: (لا تُنزَع الملكية الفردية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل ووفقاً للقانون). إلا أن الذي جرى على أرض الواقع كان مخالفاً لكل القوانين والدساتير، حيث أن تنفيذ عمليات الاستملاك بهذا الشكل، وتجاهل التعويض العادل، أضاف آلاف المواطنين إلى قوائم العاطلين عن العمل، وحولهم من منتجين إلى عالة على المجتمع، وينتظر الكثير منهم الفرصة للانقضاض على هذا المجتمع وتخريبه، في حين يجب أن تنصب كل جهود الدولة على توفير فرص العمل في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها سورية، وباتت الاستملاكات تشويهاً لجمال المدينة ومرتعاً للمهربين أو مكبات للقمامة، أو مشاريع فاشلة، وذلك بعد تفريغها من شاغليها وتركها دون استثمار، أو دون تنفيذ المشروع الذي استُملِكت من أجله. وهنا نتساءل ما هي المشاريع ذات النفع العام التي أقيمت على العقارات المستملَكة؟! وقد رأينا الكثير من الاستملاكات قد تحولت إلى مشاريع سكنية أو إلى استثمارات شخصية، بعيداً عن القصد الذي تم استملاكها من أجله.