البحث العلمي حقائق ومؤشرات 3/3
لا شيء يبرر التأخير
إذا كان لابد لنا في إطار الموضوعية الأخذ بالاعتبار الظروف التاريخية لسورية، فإنه وبإطار هذه الموضوعية لا يمكننا أن نتجاهل تجارب بعض الدول العربية والإسلامية في مجال النهضة العلمية ونجاحها في تجاوزها للتركات التاريخية وتغلبها على السياسات العالمية التي تعمل بخلاف ضرورات النهضة.
كتبت Debora MacKenzie وهي محررة في نيو سيانتيست NewScientist أنه رغم كل العوائق الموضوعية المانعة لتقدم إيران، فقد سجلت تقدماً مذهلاً ونمواً فلكياً في مجال العلوم والبحث والإنتاج العلمي، وتتفق Debora في تفسيرها لتقدم إيران في المجال العلمي مع ما يراه البعض بأن العزلة التي شهدتها هذه الدولة خلال حرب ثماني السنوات بينها وبين العراق دفعت بها نحو المزيد من التركيز في تطوير المؤسسات التعليمية وزيادة إنتاجها العلمي. لقد قفزت إيران بالعدد الإجمالي للأوراق العلمية التي نشرت في مجلات عالمية مرموقة من 763 عام 1996 إلى 13238 ورقة علمية في عام 2008، محققة بذلك زيادةً بمعدل 18 ضعافاً وهو الأعلى في العالم.
مراجعة لا بد منها
إن معدل ما أنفقته «إسرائل» عام 2009 على البحث العلمي والتطوير وصل إلى 4.27% من الناتج المحلي الإجمالي (GPD%) أي ما يعادل 8.3 مليار دولار متجاوزة معدل إنفاق الولايات المتحدة الأميركية البالغ 2.8% من ناتجها المحلي الإجمالي، في حين كان لتونس أعلى نسبة إنفاق بين الدول العربية حيث بلغت 1.1% (0.48 مليار دولار) بينما كان معدل الإنفاق 0.8% (2.5 مليار دولار) في إيران الأعلى بين الدول الإسلامية، في حين لم يتجاوز معدل الإنفاق في سورية نسبة 0.2% من الناتج المحلي الإجمالي حسب تقديرات تقرير المعرفة العربي لعام 2010-2011، أما قياس معدل هذا الإنفاق كحصة للفرد الواحد من مجمل عدد السكان فهو بمعدل 1100 دولار في «إسرائيل» و 48 دولار في تونس و 35 دولار في إيران و 0.25 دولار في سورية (انظر القراءة في تقرير مديرية البحث العلمي لجامعة دمشق المعروض فيما سبق).
أما نتائج البحث العلمي وثمار ما ينفق عليه من مبالغ فنجد ترجمتها العملية في عدد براءات الاختراع المسجلة وما يصدره كل بلد من تكنولوجيا متقدمة كمؤشر عن مدى النجاحات التي حققها هذا البلد على صعيد البحث العلمي، منها صادرات التكنولوجيا المتقدمة، المنتجات ذات الكثافة العالية من حيث التطوير، البحوث في مجالات نوعية مثل الفضاء الجوي وأجهزة الحاسوب والمنتجات الصيدلانية والأدوات العلمية والأجهزة الكهربائية.
ضمن هذا الإطار فقد حققت «إسرائيل» من صادرات للتكنولوجيا المتقدمة ماقيمته نحو 8 مليار دولار عام 2010، بينما حققت الهند 10 مليار، تركيا 1.7 مليار، كوبا 750 مليون، إيران 600 مليون، باكستان 300 مليون، سورية 85 مليون (2008 بيانات)، مصر 100 مليون، لبنان 300 مليون، الجزائر 500 مليون، تونس 600 مليون، والمغرب 900 مليون. وقياساً على التعداد العام للسكان يمكننا أن نلحظ الهوة الكبيرة في مجال البحث العلمي بين سورية ودول تقاسمها سياسات الحصار أو تتشارك معها في الظروف التاريخية أو كيان يهدد أمنها واستقرارها.
بيئة البحث العلمي وأسباب ترديه
يبقى السؤال الرئيس، هل يعود هذا الضياع لأسباب ذاتية أو موضوعية؟ ربما للإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من البحث عن مصدر السلطات وتراتبيتها، فواقع الحال يقول إن قلب الادوار والمهام في هرمية السلطات وضع التعليم العالي أمام حاجز من الضوابط التي لا تتجانس مع طبيعة المهمة التعليمية وقضية البحث العلمي الذي يرتكز أولاً وأخيراً على الطاقات العلمية وحرية حركتها وأدائها.
يرتبط واقع البحث العلمي وترديه بعدة جوانب بدءاً من إشكالات مرحلة التربية والتعليم مروراً بترهل التعليم العالي وانتهاء بالأولويات السياسية والإدراك العام لأهمية البحث العلمي ودوره في عملية التنمية والنهضة الوطنية.
إلا أن هذه العوامل غير مستقلة عن بعضها البعض بل فاعلة فيما بينها بشكل مادي جدلي، حيث يرتبط فهم البحث العلمي وإدراك محركاته بمجموع العوامل الفاعلة في حركة المجتمع، فعملية إعداد التلميذ وتهيئته فكرياً وعلمياً على سبيل المثال غير مستقلة عن البيئة السياسية والاقتصادية وغير محررة من البيئة الثقافية والاجتماعية، بيئة غابت عنها القيمة التحليلية في مناهج التعليم بمراحله المختلفة وسيطر فيها الحفظ والتلقين والاستذكار التقليدي مما انعكس على محاولات البحث العلمي التي غالباً ما ارتكزت على التقليد وافتقرت للإبداع والابتكار.
إن مجتمعاً مثل مجتمعنا، أصبحت فيه العوامل الموضوعية أسيرة العوامل الذاتية، يجد صعوبة كبيرة في تفهم أهمية البحث العلمي ودوره في النهضة الوطنية، لا بل يتم استثمار هذه الحاجة الموضوعية في سياق إعلامي لتسويق الحالة الذاتية، ممارسة تجلت في المفارقات الفجة بين الخطاب السياسي الإصلاحي وحقيقة الممارسة التي عززت تراجع الحريات وتدهور الواقع العلمي والتعليمي وتنامي الفساد في المؤسسات التربوية و التعليمية.
لقد أوضح الواقع أن الآلة السياسية، التي سيطرت على المؤسسة العلمية منذ سبعينيات القرن العشرين، انشغلت زمناً طويلاً بالهم الأمني والتسويق السياسي وبعدت كثيراً عن قضايا التنمية بأبعادها العلمية، الاقتصادية والاجتماعية. هذا الواقع الذي تميّز بتسييس الهيئات العلمية حجب عنها الحرية في وضع استراتيجيات ورسم سياسات جادة وواضحة للبحث العلمي وحرمها من إمكانية توظيف طاقاتها في التنمية والنهضة الوطنية.
في ظل هذه الحقائق نرى كيف جاءت المخصصات المرصودة للتعليم العالي ضعيفة دائماً وللبحث العلمي شبه معدومة مقارنة بمتوسط المخصصات الإقليمية أو الدولية، فكيف إذا ما قورنت بما يخصصه الكيان الإسرائيلي الذي يهدد أمننا بشكل مستمر والذي ركز جل اهتمامه على البحث العلمي فوضع له ميزانيات تفوق ما خصصته جملة الدول العربية.
في سياق هذه المرحلة التاريخية لم تتمكن ثقافة البحث العلمي من التوسع والانتشار وبقيت همّ وحلم النخبة العلمية المهمشة التي تبحث بشكل دائم ومستمر عن مصادقة القرار السياسي على حريتها ونشاطها، مناخ ترافق مع هيمنة الفكر الديني الذي عمل على الإقلال من أهمية العلم والبحث العلمي وشكك بأهمية العنصر البشري وبطاقاته الخلاقة وروج لفكرة انتظار حلول الماورائيات.
ما عزز هذه الحالة هو تنامي الهوة الطبقية وتفاقم الفقر وازدياد عدد العاطلين عن العمل بين الجامعيين واندفاع العاملين في الحقل العلمي نحو البحث الدائم عن مصادر لتحسين الوضع المعاشي وتوفير الاستقرار الاجتماعي.
ظرف تاريخي تحولت فيه الجامعات إلى مصنع للكوادر ورأس المال البشري الذي كثيراً ما تفاخرت به الحكومات المتعاقبة بتوظيفه في خدمة المجتمعات الأوروبية ودول الخليج العربي ظناً منها أنه أفضل استثمار لتحقيق فضل القيمة وعائد مالي بالقطع الأجنبي بدلاً من توفير الشروط والمشروعات لاستثماره داخلياً في تحقيق النهضة الوطنية، وبدل أن تتنافس الحركات السياسية على تصحيح هذه الخيارات السياسية عملت على تطويره بتعاليها على الحالة العلمية وانشغالها بالمهاترات العقائدية أو نزوحها نحو الماضوية، بدل ارتكازها على العلم وتفرعاته لوضع برامج اقتصادية كفيلة بتحقيق التنمية الشاملة وقادرة على إعطاء البحث العلمي معناه ودوره الحقيقي.
لقد أصبح واضحاً أثر السياسات والممارسات الخاطئة التي طورت حالة الترهل والتراجع العلمي في جامعاتنا، وأضحى جلياً ضرورة التغيير وحتميته والحاجة الماسة لمراجعة شاملة لقضية التعليم العالي وجذور ترديه، للانتقال خطوة نوعية تؤسس لبرنامج شامل لربط حقيقي للجامعة بمتطلبات التنمية والنهضة الوطنية، فمتى نبدأ ؟؟؟