من الذاكرة : من ميسلون كانت البداية
مع دخول الأزمة التي تعصف ببلادنا عامها الثالث، تستفحل المحاولات المحمومة التي يقوم بها المتشددون في المعارضة والنظام لحرف الصراع عن مساره الحقيقي إلى صراع على المراكز والسيطرة والنفوذ، وإلى غاية يندفعون نحوها على أشلاء الضحايا وأنقاض الوطن إلى اقتسام «الكعكة» وملامح هذا التوجه المشبوه والمرفوض أضحت واضحة لكل عين بصيرة
لكن ذلك لا يمكن أن يحول في حال من الأحوال بين هذه العين البصيرة ورؤية ما يتجسد شيئاً فشيئاً على أرض الواقع من اصطفاف حقيقي بين الناهبين والمنهوبين.. بين الوطنيين واللاوطنيين، والحسم فيه كما في كل المعارك التي خاضها شعبنا ووطننا منذ ملحمة ميسلون الخالدة إلى الثورة السورية الكبرى إلى الاستقلال، إلى إسقاط الديكتاتوريات العسكرية إلى التصدي للعدوان الصهيوني والأحلاف الاستعمارية. لقد كان الحسم بانتصار شعبنا على أعدائه الاستعماريين ومستغليه من إقطاع وبرجوازيين وظلاميين.. ومن ذكريات تلك السنوات المجيدة التي أستعيدها اليوم:
من النافذة المطلة على حاكورة تجاور بيتنا في سفح قاسيون سمعتها تنادي على جندي من عدة جنود اتخذوا من الحاكورة موقعاً لهم مع معداتهم اللاسلكية إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956:
تعال ياولدي خذ هذا الطعام لك ولأصدقائك، وبعد أن شكرها اتجه بالطعام إلى خيمته. فقلت لها: يا أمي هؤلاء الجنود لديهم طعام مخصص لهم، قالت: أعرف ذلك ولكنهم يا ابني بعيدون عن أمهاتهم فأحببت أن أطعمهم كما أطعمكم. ويمر عام والتحق بالخدمة العسكرية ــ وتجابه بلادنا تآمراً استعمارياً شرساً جراء موقفها المناهض للعدوان والمعتدين، حيث حشدت تركيا جيشها على حدودنا الشمالية لتكمل الطوق حول سورية البطلة، فالعراق قاعدة لحلف بغداد الاستعماري، ولبنان نزلت على أرضه القوات الأمريكية، والأردن دخلته القوات الانكليزية إلى جانب الكيان الصهيوني. وأعلن وطننا نفير التصدي للأعداء، واندفع قسم كبير من جيشنا إلى حماية أراضينا على الحدود الشمالية، وكنت واحداً في عداد لواء مدرع انتشر على قطاع واسع من حدودنا وفي ظهيرة أحد الأيام كنت أقف قريباً من خيمتنا حين اقتربت مني امرأة تحمل قدر طعام، وقالت لي: خذ يا ابني هذا الطعام وكله مع أصدقائك، فلقد اشتهيت لكم هذا الطعام. عندها غمرني شعور رائع لا يوصف بعظمة هذا الموقف.. موقف أمهاتنا الغاليات في كل بقاع الوطن.. وفي عيدهن نحييهن من أعماق قلوبنا التي تلهج بتقديرهن وإكبارهن فهن من زرعن في نفوسنا.. في وجداننا حب الوطن.. حب الشعب.. وكره الظلم والظالمين فنفوسنا اليوم تضطرم بمعاناتها.. وقول الجواهري يضج في قلوبنا وعقولنا:
ترنحت من شكاة بعدك الدار
وهبّ بالغضب الخلاق إعصار
وأرعد الوطن الغالي وقد ثقلت
عليه مما جنى الجانون أوزار