من الذاكرة:   لست متشائماً

من الذاكرة: لست متشائماً

قبل أيام معدودة جمعتني المصادفة برفيقين قديمين، أحدهما ينتمي إلى فصيل «صوت الشعب»، والثاني إلى فصيل «النور» وهما اليوم رغم ما اعترى ميداننا الحزبي السياسي من تشابك وتنافر مازالا صديقين عزيزين محترمين، 

والمصادفة التي جمعتنا هي زيارتنا لصديق مشترك ألم به مرض عارض أقعده عن العمل لأسبوعين، وهو صاحب مكتبة صغيرة لبيع الصحف والمجلات. وأقول صادقاً:

إنني شعرت كأننا في فرقة ترشيح حزبية فتية على الرغم من أننا ــ أربعتنا ــ تخطينا مرحلة الكهولة ووصلنا مرحلة «الشيوخ» وقد أملى علينا الواقع الراهن – جدول عملنا- وتضمن «المحاور» التالية :

• الأول هو تقييم الأزمة التي تعيشها بلادنا الحبيبة الغالية سورية، وقد توصلنا بعد المناقشة الجدية والحارة إلى الاتفاق على أن ما يجري يؤكد –علمياً- أن الفرز الحقيقي وليس الوهمي هو الفرز الطبقي ويتجلى بشكل ساطع لا يمكن أن يتجاهله إلا ذو غرض مكشوف أو واهم أو مكابر- هو الثنائية التي تمثل طرفي الصراع، الطرف الأول هو الغالبية الساحقة من شعبنا التي عانت وما زالت تعاني ويلات النهب والقمع والتهميش والاستغلال الجائر، والطرف الثاني هو أقلية متمكنة فاسدة  تمتلك سلاح القهر والتسلط ورأس المال، أي بأختصار شديد: إن الصراع الواقعي الدائر على ساحة الوطن من أقصاها إلى أقصاها بين الناهبين وهم على تنوعهم وتوزعهم على خريطة الصراع، يتسترون إما بعباءة «النظام» أو جلباب «المعارضة» وهم جميعهم في الثابت على الأرض موحدو الغاية وحتى بالوسيلة المرتكزة إلى سلاح الإقصاء والإلغاء والتسلط والسعي المحموم للحفاظ أو للوصول إلى «المفاتيح» أو بكلمة أدق صنابير اللصوصية وامتصاص جهد ودم الكادحين. إنهم الجائرون والغيلان وكبار الحيتان والظلاميون ومن يسير في ركابهم من شبيحة وذبيحة. اللاهثون إلى إعادة مجتمعنا إلى عهد الرق والظلام، وهو وجهتهم الوحيدة.. وقد أحسن شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري بوصفهم قائلاً:

من سائرين القهقرى لم يعرفوا

بين الجهات الست غير وراء

وبين شعبنا الذي أرعبهم بتحركه المشروع في سبيل لقمته وكرامته المستهدفة ومستقبله المنشود.

• والثاني وقد اتفقنا عليه بعد النقاش وهو أن اليسار الذي ننتمي إليه، ليس في عداده، ولن يكون كل من إنحاز أو «تفيأ» بظل الإمبريالية الأمريكية والرجعية، العدوتين الأساسيتين لكل اليسار في العالم.. ومن البدهي أن الغايات والأهداف الشريفة النبيلة لا تتحقق إلا بالوسائل الشريفة والنبيلة!

• والثالث فتمثل في اتفاقنا بعد حوار «ساخن» على أن «المعارضة» أيضاً ورغم كل الالتباسات والإدعاءات تنشعب ــ كما يؤكد واقعنا المؤلم ــ إلى الثنائية الحقيقية التي جاءت في المحور الأول، أي بين معارضة وطنية تمثل غالبية أبناء شعبنا «المتحركين أو المتحدثين أو الصامتين» وبين «معارضة» لا وطنية تستتر خلف برقع المتاجرة والمزاودة والضجيج ولن تنجح مهما استشرست في إخفاء حقيقتها الصارخة، ومن الذاكرة تحضرني الآن أبيات من قصيدة ألقيتها في مخيم لاتحاد الشباب الديمقراطي في أحد بساتين غوطة دمشق قبل أربعين عاماً:

لئن تمادى الليل يسكب الصديد

في مقلة أذهلها المتاجرون

فالصبح آت لا جدال

للعالم الذي يصوغ اليوم عيناً للقمر

لابد أن يكون في الولادة

إنساننا ذاك الجديد

هذي قوانين الحياة

• أما المحور الرابع فهو ما يشرفنا في التيار الذي أطلقته قاسيون والذي أعتز بكوني واحداً من رافعي رايته، وفي الوقت عينه فأنا واحد من قدامى أسرة صحيفة قاسيون منذ العدد رقم /71/ أيار 1982 وحتى اليوم. فلقد أجمع الرفاق الأصدقاء الثلاثة على أن صحيفة قاسيون موضع تقديرهم واحترامهم وتأييدهم، فهي وكما قالوا المعبر الصادق عما يريده ويحسه ويعيشه الشيوعيون، وهي رائدة في التعبير عن التيار الوطني الشعبي المتنامي. ومن الذاكرة أيضاً أستعيد أبياتاً قلتها قبل خمسين عاماً تعبر عن هذه الحقيقة الساطعة:

يا شفاه الشعر ذوبي.. في أساطير الشعوب

واسأليهم: من ترى يقوى على لجم الرياح

إن طغى الإعصار مجنوناً بساح

من يصوغ النصر عقداً من جراح

للملايين الغفيره.. للملايين الفقيره

غير قبضات الرفاق.. غير قبضات الأباة

• ومسك الختام ــ قراءنا الأعزاء ــ أن المهم، بل الأهم، هو ما أكدته قاسيون في عددها الماضي رقم /586/:

إن الرهان يبقى دائماً على الحركة الشعبية بمفهومها الواسع على إبداع الناس في تحقيق ومراكمة انتصاراتهم اليومية، وإن كانت صغيرة، فتقدم هذه الحركة وتحولها من درجة نشاط سياسي عال إلى درجة تنظيم سياسي عال، هو فقط ما يمكن التعويل عليه، لنقل سورية موحدة أرضاً وشعباً إلى سورية جديدة عادلة وحرة، إلى سورية دولة للشعب، وليس لناهبي الشعب، هذا رهان وقناعة الإرادة الشعبية التي ستبقى وفيه لها أبداً، وإن كره الفاسدون.

ومن القلب أزجي صادق التحية والاحترام إلى كل من يقول: لست متشائماً.