من الذاكرة: أجدب... عل بركة

من الذاكرة: أجدب... عل بركة

مما يبهج نفس المرء أن يحظى بصاحب خفيف الظل، عذب الحديث، حاضر البديهة، ظريف يشيع الحبور والسرور، وقد أتيح لي بين مجموعة من الأصدقاء منذ شبابنا، أن يكون في عدادنا مثل ذلك الصاحب المرغوب.

وكان وجوده بيننا كافياً ليبدد قلقنا أو حزننا أو همنا إن وجد. ومن طرائفه المضحكة أعطي مثلاً: كنا يوماً نسير في أحد شوارع دمشق الرئيسية حين مرت بنا شابة رائعة الجمال، آسرة للعيون والقلوب، تفيض حيوية وسحراً وبهاءً، فإذا بصديقنا الظريف يطلق بيننا ـ طبعاً دون أن تسمع الشابة ــ سيلاً من قذائفه الدعابية في هجاء وذم دائرة الأحوال الشخصية والسجل المدني والمخاتير وحتى وزارة الداخلية وعندما سألناه عن سبب ذلك كله، قال كم هم أغبياء.. كيف يسجلون هذه الرائعة أنثى... وخالتي أنثى؟! وكان إلى جانب طرائفه يرتب أقوالاً «مأثورة» غاية في التوفيق والإبداع، وأذكر منها قوله: أن تجعل أسودين أبيضين، وأن تحفر بئرين بإبرتين أسهل من أن تعيش مع (غليظ) يومين.. بل ساعتين!!

والغليظ ــ لغة ــ هو الفظ ذو القساوة، والغلظ ضد الرقة في خَلقٍ وخُلُقٍ وعقل وفعل ومنطق وعيش وما أشبه ذلك. ومن الذاكرة أستعيد هذه الواقعة: في منتصف السبعينيات من القرن الماضي كنا في اجتماع لكادر دمشق الحزبي تحت شعار «العمل بين الجماهير»، وبحضور الرفيق خالد بكداش الأمين العام للحزب، وقف رفيق يتحدث عن تجربة جديدة مارسها بمشاركة ثلاثة رفاق بين العمال في المعمل الذي يعملون فيه، وأحرزت نجاحاً «عكّرهُ» تصرف رفيق «غليظ» وقال بانفعال: هذا شيء غير معقول.. كيف يكون مثل هذا الغليظ عضواً في حزبنا؟!

فعلق الرفيق خالد على هذا الانتقاد وهو يبتسم بقوله: ليس في النظام الداخلي للحزب ــ كما نعرف ــ ما يمنع انتساب مثله. وقريباً أيها الرفيق سيجري كونفرنس «اجتماع» المحاسبة والانتخاب، فقدم اقتراحاً بهذا الشرط!

ومن الأمثلة الفاقعة على الغلاظة ما جرى قبل أسبوع، فبعد أن قمت بواجب التعزية بوفاة أحد جيراننا القدامى، وقفت لدقائق على الرصيف أمام الصالة مع الجيران نتبادل التحية والسؤال عن الأهل والأقارب والأصدقاء والصحة والأحوال، وإذ بأحد الغلظاء يوافينا بحضوره بيننا، وللإيضاح فهو انتهازي نفعي «ملمع.. مقطع.. موصل» تقلب من عضو في حزب فيصل العسلي التعاوني في الخمسينيات إلى عضو في الاتحاد القومي ثم إلى جماعة مأمون الكزبري الانفصالية، ثم إلى عضو في الحزب الحاكم في السبعينيات والثمانينيات وما بعدها، وأنا لم أره مثل سنوات عدة، والآن هو أمامي وجهاً لوجه بزيه الجديد «طاقية باكستانية، ولحية بيضاء ومسبحة في اليد» وبعد إلقائه السلام، قال لي بلهجة الواعظ المنتفخ: أستاذ محمد علي «لسعتك شيوعي»؟ فأجبته: نعم أنا أعتز وأفخر أنني مازلت، وسأبقى شيوعياً، فهذا اختياري الحر الواعي وقناعتي الأكيدة الفعلية، لهذا أنا ثابت على المبدأ، وأنت طبعاً لا تعرف المبادئ ولا علاقة لها بك.. وأنا بدوري أسألك أمام جيراني المحترمين.. أنت لسعتك أجدب؟ فبهت وامتقع لونه وخرس تماماً عن الكلام.

وهذه الواقعة أعادتني بالذاكرة إلى حكاية قديمة خلاصتها: أن صاحب سيارة كان يقودها من دمشق إلى حلب وعند مشارف مدينة حمص أمام أول بيوتها «بنشر» أحد دواليب السيارة، فأخذ يمينه وأوقف السيارة، ونزل ليبدل الدولاب المثقوب وبعد فك الدولاب وضع البراغي في «طاسة» الدولاب، وركب الدولاب البديل، ومرت سيارة مسرعة فـ«طيرت» الطاسة بما فيها من البراغي، وقف الرجل ينظر محتاراً في أمره، ماذا يفعل، وتلفت حوله فوقع نظره على أحد الحماصنة يطل عليه من شرفة بيته ويتابع المشهد. فبادره الحمصي قائلاً: هوّن عليك..بسيطة.. فك من كل دولاب برغي.. وعندما تصل إلى الكومجي تتدارك النقص في البراغي.

وقع هذا الكلام موقعاً حسناً في نفس الرجل، فهو حل معقول وصحيح للمشكلة. وقال للحمصي «لا تؤاخذني..كيف بقولو عنكم إنكم عل البركة؟» فأجابه الحمصي وأنا بدي آخذك فإن «كنا كما تدّعي عل بركة، بس مو حمير..! ».