مجرد حديث صباحي..
أعتقد أنه وفي مرحلة من المراحل حينما يسوء فيها الوضع حقاً، ويشعر الأفراد بحجم الخسارة والضعف الذي هم، فيه يبدؤون بإعادة بعض الأحداث أو الوقائع التي مروا بها أو اختبروها سابقاً مراراً بصيغ عديدة وأمام العديد من الناس، كما لو أنهم لا يصدقون أنها حدثت معهم فعلاً، حيث تبدو لهم بعيدة وضبابية، وكأنهم بإعادتها والتقاط تفاصيلها يجعلونها جزءاً منهم مرة أخرى.
أو أنهم يعيدونها لأنهم مقتنعون تماماً أنها حقيقة حدثت وأنهم عاشوها فعلاً ولا يبقى هنا إلا التشكيك بالحاضر نفسه لأنه يبدو أكثر قابلية للطعن فيه وتكذيبه.
في عائلتي جملة من الأحاديث والقصص التي تحكى غالباً مثل قصة الـ «135ليرة» وهي المبلغ الذي كان يحصل عليه جدي في أواخر الأربعينات كراتب لقاء عمله، وكيف أن هذا المبلغ كان يكفي لأن يعيش هو وجدتي في إحدى المحافظات البعيدة، ويرسل ما تبقى من المال لأهله وإخوته الأصغر سناُ، وليدفع منه أقساط «جهاز العرس» الذي تم شراؤه وقتها ، وكيف أن هذا الراتب نفسه كان ينقسم ويتكاثر فيما بعد ليطعم أولاده الخمسة ويعلمهم، وليمكنه من بناء منزل له ولأسرته، وليشتري فيما بعد محلاً صغيراً بـ 7000 ليرة سورية يحوله إلى مكتبة ومن عمل المكتبة يشتري قطعة أرض.
وفي الوقت الذي تقاعد جدي سنة 1963 كان راتبه 500 ليرة سورية، وكان راتباً مرتفعاً نوعاً ما مقارنة بغيره.. وتنتهي هذه الحكاية غالباً بعبارات مثل «كانت حياة غير هي الحياة» أو كلمة «أيااااام»، وهنا يبتعد كل من جدي وجدتي عن حدود حاضرنا، ويغيبان في تاريخ حياتهما الخاص، و ابتسامة صغيرة تتجمد فوق شفاههما.
أو قصة «كيلو لحم الغنم» التي تحكيها أمي (بعد حكاية الراتب غالباً) عن والدها الذي كان يكره لحم البقر كثيراً ويمنع إدخاله إلى المنزل، وكان كثيراً ما يردد عبارة «ما رح فوّت كيلو لحم البقر على البيت حتى لو بيصير كيلو الغنم بـ 100 ليرة!!».
وهذه القصة تدفع بأفراد العائلة الأكبر سناً للتعليق عليها بدورهم، وذكر حوادث مشابهة عن أسعار السلع أو الرواتب وغير ذلك، وهكذا تستمر الجلسات العائلية لأسرتنا، قصص منبثقة من أخرى غيرها، وكلها متشابهة بشكل أو بآخر، والأهم من ذلك: كلها معروفة لدى الجميع كونها رويت آلاف المرات وبالطريقة نفسها.
وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن سبب إعادتها، هل رواتها لا يدركون أننا نعرفها تماماً، هل نسوا أنهم قصوها على أسماعنا من قبل؟!!
الإجابة الوحيدة التي توصلت إليها أنهم في الحقيقة لا يروونها لنا كي نعرفها، بل يروونها لأنفسهم بصوت مرتفع لأن درجة التناقض بين الماضي والحاضر تصل أحياناً إلى حد يصعب معه تصديق أنهما كانا مراحل لحياة الأفراد أنفسهم، حيث يبدو الماضي ملكاً لأفراد آخرين في بلاد أخرى وزمنٍ آخر، ويبدو الحاضر أكثر قسوة وعبثية مما يمكن تصديقه.