من الذاكرة : الحياة هي المعلم

من الذاكرة : الحياة هي المعلم

ما نعانيه اليوم من أزمة موجعة، ذكرني بخطاب، كنت وأنا شاب في الثامنة عشرة أحد مستمعيه وشهوده من شرفة الضيوف في البرلمان يوم 17 كانون الثاني 1955  أثناء مناقشة ميزانية الدولة والخطيب هو الرفيق خالد بكداش، وكان مسك ختامه قوله:

«أيها الزملاء الكرام ... إن الاستقرار الذي ننشده لوطننا السوري العزيز، ليس له سوى طريق واحد هو طريق سياسة وطنية ديمقراطية في جميع ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فكلما كنا أجرأ، وأبعد نظراً في انتهاج مثل هذه السياسة، كان الطريق نحو الاستقرار أوسع وأرحب. إن الشعب يريد سياسةً  …يريد حكماً يشعر بأنهما مستوحيان من إرادته ومصالحه، وعندئذٍ تُسدّ جميع الثغرات التي يحاول أن يتسلل منها الاستعمار بمؤامراته، وعملاؤه بتهويشهم وقلاقلهم وفتنهم، ذلك هو طريق الاستقرار، ولا طريق إلاه»

 وأرى أن من الواجب التذكير بتلك الصفحات الناصعة التي سطّرها الرفاق المعروفون و«المجهولون». وتعبير «الوجنود المجهولون» الذي جرى، ويجري تداوله للدلالة على أن أناساً أعطوا ما لديهم من طاقة وبذل وتضحية بعيداً عن الأضواء الكاشفة، لأنهم يرون في عطائهم بنكران ذات ممارسةً لا ادعاءً – واجباً مشرفاً، وهؤلاء الرائعون هم خميرة البذل الإنساني الصادق في كل مناحي الحياة.

إن الذاكرة تحتفظ بصور العشرات والمئات منهم، وكذلك أوراقي الهاجعة على رفوف مكتبتي تحتضن بمحبة ووفاء عطر عطائهم، وفي إحدى أوراقي قرأت ملاحظات كنت قد قدمتها أمام اللجنة المركزية حول المهرجان المركزي الذي أقامه الحزب عام 1999 في صالة ملعب تشرين  احتفاءً بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسه، ومنها الملاحظة التالية :

 «بذل الرفاق المكلفون بإعداد الصالة والإشراف على استقبال الضيوف وحماية الاحتفال وإنجاح هذا العمل الكبير، بذلوا جهوداً متميزةً، وكثير منهم وصل الليل بالنهار في عملٍ متفانٍ ونكران ذات، فلهم منا جزيل الاحترام والشكر فهم بحق الجنود المجهولون».

وفي المقابل تماماً هناك بعض آخر «ديدنهم التملق والانتهازية والمزاودة والبروظة» لكن كشفهم وتعريتهم وفضح مراميهم مهمة سهلة حين يُمارس النقد والنقد الذاتي في عمل الهيئات الحزبية، ولعلي قادر على ذكر شاهد على ذلك بملاحظة  من الملاحظات التي سبق أن أشرت إليها بخصوص تقييم الكلمات التي أُلقيت ومنها كلمة الرفيق رئيس اتحاد الشباب التي اتسمت بالانفعال، وتضمنت عبارات مستهجنة كعبارة (الأم الراعية للاتحاد) ثم جاءت كلمة رفيق آخر لم يكن ضمن المتحدثين – حُشر حشراً – لتظهر أن الأمر ليس عاطفةً أو انفعالاً، وإنما هو لوحةُ مسرحية معدة بتخطيط  ودراية، فالكلمة بمجملها بعيدة جداً عنا كشيوعيين، واعتمدت شكلاً من الخطاب، أحسست أنه دخيل على تقاليد الخطاب الشيوعي العلمي المسؤول نقلنا فجأةً «صورة وصوتاً» من رحاب الحزب الشيوعي الكفاحية إلى ساحة من ساحات  البرامج التي تصفع عيوننا وآذاننا كل يوم بما تقدمه من المدح المتصنع والمزاودة الرخيصة، وقد خشيت أن يتبعها بتقديم وثيقة مكتوبة بالدم تمجد الراعي والمعلم بالولاء المطلق، لذلك أرجو من الرفاق العاملين في ميدان الشباب الانتباه لمثل هذه الطروح الخطرة واللونيات  التي يمكن أن تتحول إلى نهج وتيار يُبعدنا عن تراثنا العلمي في الكلمة المسؤولة. إن الانتماء والولاء أولاً وأخيراً للحزب وللوطن.