«بدنا نعيش»..
كم تذكرني هذه الأيام بحرب تموز.. تلك الحرب المجنونة على المقاومة وجمهورها ومعظم شعب لبنان.. كم كان الانقسام حينها كبيراً بين أناس ينشدون الحرية والانتصار لمقاومتهم ووطنهم وكرامتهم.. يناطحون العالم كله من أجل انتصار إرادتهم، وبين أناس كانوا يرددون على المحطات التي كانت تقوم بتخريج دفعات جديدة من نجوم الفن والرقص الشرقي والغربي، شعارهم السطحي «بدنا نعيش».. يرددون ذلك وكأن جمهور المقاومة يكره الحياة؟! تلك المحطات بقيت تكرس الانقسام بين القديم المهترئ الفارغ، والجديد المنتصر، وهذا بكل أسف مازال مستمرا..ً وتظهر الكثير من ملامحه هنا وهناك..
تقول الكاتبة الأميركية إليزابيث جلبرت في رواية «طعام صلاة حب»: «إذا أردت أن تعرف مدينة من المدن، عليك أن تعرف كيف يفكر أهلها..». بهذا المعنى لا يمكننا ذكر إيطاليا والاكتفاء بتذكر آثارها الرومانية وطعامها الخاص ووسامة شبابها؟ ولا يمكننا ذكر مدينة باريس والاكتفاء بادعاء تنشق رائحة العطور الباريسية الشهيرة؟ وكذلك لا يمكننا أن نتذكر القاهرة والتأفف من ازدحامها فقط أو الحديث عن أهرامات جيزتها وحسب.. فما إن تركب التاكسي في أية مدينة من هذه المدن ستتلمس ما وراء هذه الأبعاد فوراً.. سترى الناس وما يقولون وما يفعلون، وما قالوا من قبل وما فعلوا..
أسأل: ترى هل ما قاله مؤخراً مظفر نواب عن مدينة دمشق كان حقيقياً؟ أنا شخصياً أحب هذه المدينة التي ولدت فيها وترعرعت، لكني أفكر كثيراً فيما قاله النواب من زاوية أعمق.. من زاوية أن صوت :«بدنا نعيش» السطحي، لم ينتصر في تاريخها أبداً على إرادة الحياة الكريمة العزيزة بمعناها الجامع العميق.. مدينة دمشق لم تعترف يوماً بأحد الغزاة الكثر أو الطغاة الكثر الذين مروا فيها.. وجميعهم لم يستطيعوا المكوث فيها طويلاً، فهي المدينة الوحيدة التي ترى جدار الجامع، ملاصقاً لبيوت السهر والأركيلة، ملاصقاً لجدار قلعتها الراسخة.. إنها مدينة دمشق العتيقة الأبدية.. تلك المدينة التي يهواها الجميع ويريدون أن يشربوا من مائها، وهي لم تبخل على أي منهم أبداً.. ولكن بإرادتها وليس قسراً!