صور من امتحانات محافظة الحسكة.. فساد لن تمحيه إلا دورة الزمن
يخشى المهتمون بمستقبل البلاد العلمي أن يقود التساهل في الامتحانات والغش الذي صار يرافقها إلى تخريج جيل متعلم وأمي في الوقت نفسه، وهي ثنائية جديدة على المجتمع السوري، ومن ينجح في الغش في امتحانات الشهادتين الثانوية والتعليم الأساسي،
محافظة الحسكة مشغولة بأكملها، الفلاحون بحصادهم، والطلاب بامتحاناتهم، وعيون السوريين تتجه نحو فلاح المحافظة البعيدة، إنهم يبحثون عن الطمأنينة على خبزهم الذي نجا وحده لحد الآن من الأزمات، بينما تتجه أنظار العارفين إلى امتحانات الشهادتين، العامة والتعليم الأساسي، وفي الذهن السؤال الذي تكرر خلال عدة سنوات سابقة، هل ستكون الامتحانات نزيهة هذا العام؟ وما صحة ما يتردد عن دخول الفساد إلى قطاع التعليم بعد أن حقق الإشباع في باقي القطاعات وبدأ يبحث عن أسواق جديدة، ويبدو أن التعليم أحدها؟!.
وزارة التربية تلقت طلبات عديدة لا نعرف حجمها لطلاب يريدون أن يتقدموا للامتحان في محافظة الحسكة، مع أنهم من محافظات بعيدة، ماالذي يجذبهم إلى الحسكة في صيف حار وجاف، ثمة مبرر هذا العام، الوضع الأمني المستقر للمحافظة مقارنة بباقي المناطق الملتهبة، وماذا عن طلبات العام الماضي والذي قبله... ثمة إشاعة تقول إنك سستنجح في الحسكة حتماً، طرق النجاح أكثر هنا، سماعة بلوتوث، أو مصغرات للمواد، إضافة للتنسيق مع شبكة النجاح التي قد تشمل حتى رئيس المركز الامتحاني، عليك المحاولة فقد تكون الإشاعة حقيقة، وبكل الأحوال لن تخسر شيئاً، فأنت لم تستعد للامتحان ولو بساعة دراسة واحدة خلال عام كامل.
سينجح بالتأكيد في تطبيق تجربته خلال الجامعة، خاصة بعد أن عرف وتمرس بطرق الغش والرشوة، وبينما سنحتفل بكون جميع شباب سورية خريجي جامعات، سنبكي على مستقبل البلاد التي سيقودها هؤلاء الخريجون الجدد، إنها حالة تشبه تماماً حالة القضاء على الأميين بدل القضاء على أميتهم، إنهم شباب متخرجون من جامعات سورية، لكنهم أميون، وبمعنى آخر ميتون في عملية بناء البلاد.
فساد في المؤسسة المقدسة يتحدث بعض رؤساء مراكز امتحانية في الظلام عن مبالغ لا بأس بها، مئة ألف ليرة وربما أكثر قليلاً، لقد نجحوا في المرحلة الأولى، تم اختيارهم كرؤساء مراكز امتحانية، بعدها ينتظرون العروض، ومن ثم تبدأ عملية التغطية على الطالب أثناء الامتحان، وبعدها يتم قبض الثمن.
يتعرف رئيس المركز على المراقبين الذين يعملون معه في المركز، المطلوب توزيعهم بحرفية، الأصدقاء والمتعاونون في شبكة الغش في قاعات، المتساهلون في قاعات أخرى، المتشددون في قاعات مغايرة.. لكن لابد من التدخل وإخراجهم بعد مضي نصف الوقت، بحجة منحهم استراحة لشرب شاي، أو تدخين سيجارة، فالوقوف لثلاث ساعات أمر صعب على الإنسان.
فساد مجاني
يستفيد الكثير من طلاب المحافظة مما يعرف بالمراقبين المتساهلين والمتعاطفين مع الطالب بشكل مجاني.
الطالب مسكين، الأسئلة صعبة، لنمنحه فرصة دخول الجامعة.
وفي سبيل هذه القناعات، يتبادل المراقبون الأدوار، مراقبة باب القاعة تحسباً لقدوم أي مندوب من وزارة أو مديرية التربية، وفتح المجال للطلاب للاستعانة بمصغرات الكتب التي يحملونها معهم، وتمر ساعات الامتحان، وتصبح الأسئلة سهلة، ويسأل أحد الطلاب زميلاً له في قاعة أخرى، كيف كانت المراقبة عندكم؟ فيما كان السؤال المنطقي، كيف كانت الأسئلة وهل أجبت عليها؟.
رئيس مركز وطني
يقول رئيس مركز امتحاني لأحد المراقبين المتشددين: إن التشديد على الطلاب ومنعهم من الغش قد يقود لنتائج لا تحمد عقباها، فالمدرسة تقع في الحي الذي يشهد تظاهرات مناهضة للنظام كل يوم جمعة، وينبغي عدم استفزاز الطلاب في هكذا وضع.
وهو لن يوضح بالتأكيد ما إذا كان هذا رأيه الشخصي أم أن هناك تعليمات تلقاها بهذا الخصوص.
بذخ وتعاطف
في المساء وفي جولة على مطاعم المدينة، يفترش عدد من المعلمين طاولات مليئة بما لذ وطاب، يجلس المعلمون حول الطاولة التي دعاهم إليها أحد الطلاب، يتحادثون عن مغامرات اليوم الامتحاني، وفي الصباح يلتقون وتبدأ مغامرة جديدة تقود إلى عشاء جديد.
في مركز امتحاني للتعليم الأساسي، طلب رئيس المركز من أحد رؤساء القاعات أن ينتقل لقاعة أخرى لأن طلابها لم يستفيدوا بعد ولو بكلمة، يوافق رئيس القاعة بحكم المعرفة الشخصية أو الخجل أو الفائدة، وكونه أدى دوره في قاعته وأسعد الجميع.
الغش من حق الطالب
يقول رئيس مركز امتحاني لمراقبيه إنه ليس ضد الطالب، لكن بشكل جزئي، وينصحهم بضبط القاعة وعدم التساهل مع الطلاب إلا بعد مرور نصف الوقت على الأقل، بعدها لامانع من فسح المجال لهم لفتح المصغرات، لكن لفترة محدودة، وأمام هذه التعليمات يقول طالب ثانوية عامة أدبي لأحد المراقبين بعد أن منعه من فتح مصغر المادة وسحبه منه، «كل المراقبين خطأ وأنت الصح، إنها أول مادة في الامتحان، وإذا لم تسمح لي بالنقل من المصغرة سأرسب»، يتدخل رئيس المركز ويدعو المراقب لأخذ استراحة وشرب الشاي، ويحدث ما يحدث.
متاجرة علنية
تحمل مصغرات المواد التي يتداولها الطلاب أرقام هواتف وعناويين المكتبات التي تبيعها، وبخط كبير فاتح يتحدى الجميع يكتب اسم المكتبة، ويبدو أنها بضاعة ذات إقبال كبير، يتجدد مع كل عام قبيل بدء الامتحانات، ولهذا يتنافس أصحاب المكتبات في طباعتها وبيعها، وأمام المراكز الامتحانية تشاهد هذه المصغرات بكثرة بعد أن رماها أصحابها في نهاية الامتحان.
السماعة السحرية
الأسعار المتداولة لسماعات البلوتوث التي يستخدمها الطلاب في الغش أثناء الامتحان، تقود إلى أن حرباً ضروساً يجب أن تشن على تجارها الذين لن يستسلموا بسهولة في دفاعهم عن ملايين الليرات التي تجنى بزمن قياسي. 15 ألف ليرة وتصل حتى 35 ألف، ستضرب بعدد من يشترون السماعة والذين لا نعرف عددهم الحقيقي، لكن يمكن الوصول لعدد تقريبي بعدة طرق، إحداها من خلال حساب عدد الزيادة السنوية للمتقدمين للامتحانات مقارنة بعدد الطلاب قبل دخول السماعة لأسواقنا مع مراعاة المؤشرات المتعلقة كالزيادة السكانية.
مفاجأة ودهاء
تفاجأ طلاب الشهادة الثانوية العامة صبيحة اليوم الأول للامتحان بانقطاع تغطية إحدى شركتي الهاتف الجوال، مايعني أن الطلاب المعتمدين على سماعة البلوتوث اللاسلكية لن يستفيدوا من سماعاتهم، تدبر البعض منهم أموره من خلال المصغرات التي يحملونها معهم لمثل هذه المفاجآت، وفي امتحان المادة الثانية، لجأ البعض لاستخدام خطوط خليوية تركية، حيث تصل تغطية شبكات الهاتف المحمول التركي إلى المناطق القريبة من الحدود كما هو الحال في مدينة القامشلي الملاصقة لمدينة نصيبين التركية.
مستقبل وطن
تتوارد الروايات عن الامتحانات في محافظة الحسكة، وحالما تصل بك الأمور إلى اليأس والاستعداد للصراخ، يظهر رئيس مركز امتحاني وقد ضبط نحو عشرة طلاب مع سماعاتهم السحرية في مركز واحد، وكتب تقريره الحقيقي لما جرى، غير آبه بشبكة فساد منظمة، ليعيد للعملية الامتحانية هيبتها، ويعيد البسمة للباحثين الحقيقيين عنها، وتسمع هنا طلاب يصفون مراقب القاعة بأوصاف نابية، لتعرف أنه منعهم من الغش، ويرفض مراقب آخر عرض استراحة مع شاي ويصر على البقاء في قاعة الامتحان ليراقب مستقبل وطن، ويهدد رئيس مركز آخر مراقبيه بتحويلهم إلى التحقيق في حال تساهلوا في القواعد الامتحانية.
مؤشرات
العدد المتزايد سنوياً بشكل كبير للمتقدمين إلى امتحانات الشهادتين الثانوية والتعليم الأساسي مؤشر على شيء ما، ربما هو تطور لعقلية الفرد وتوجهه نحو متابعة التعليم إدراكاً لأهمية العلم أو بحثاً عن فرصة حياتية أفضل، وربما يكون مؤشراً على أن طلب العلم لم يعد بتلك الصعوبة المزروعة في ثقافتنا والتي عادة ما تعنون بمقولات من قبيل «اطلب العلم من المهد إلى اللحد» و«من طلب العلا سهر الليالي»، لا بل أصبحت من السهولة بمكان بحيث دفعت آلاف العازفين عن متابعة تعليمهم بسبب الكسل وعدم الاستعداد لتقديم جهد، إلى العودة لقطار المعرفة الذي أصبح في أحد جوانبه سماعة ومصغر وشبكة عمل بحماية السيد الكبير «الفساد».
الفساد الذي لن يستثني قطاعاً أو مؤسسة أو مستقبلاً من رحلته التدميرية وصل إلى امتحانات محافظة الحسكة قبل هذا العام بالتأكيد، وإذا تم العمل على وضع حد له اليوم، فإنه نجح بالتأكيد في إيصال عدد لابأس به من الطلاب إلى الجامعات ومن ثم إلى سوق العمل، وهؤلاء سيبقون ينخرون في مستقبلنا حتى يغادروا الحياة، أي حتى يدور الزمن دورته، لكن مواجهة فساد التعليم اليوم وليس غداً كفيلة بتخريج كفاءات تزيح عن طريقها كل جاهل، وتقهره هو سماعته السحرية، أم أننا سنترك هذه السماعة الصغيرة لتقهرنا؟