من الذاكرة : من سائرين القهقرى

من الذاكرة : من سائرين القهقرى

قبل أيام، غيّب الموت أحد أترابي، وهو المذيع القديم والإعلامي المعروف زهير الأيوبي، وقد أعادني خبر وفاته إلى خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، أيام كنا «شلّة» من فتيان الحي ثم من شبابه، مجموعةً تصلح أن تكون نموذجاً حياً لمفهوم الصداقة والتعامل مع الآخرين،

حيث كنا من توجهات فكرية وسياسية متعددة، فزهير ومروان شيخو من تلاميذ الشيخ أحمد كفتارو، وعاصم الملا وخالد تاجا من التقدميين «المستقلين»، وصبحي من المتعاطفين مع الحزب السوري القومي الاجتماعي، وبرهان سلفي من جماعة «النبهاني»، ومحمد خير من جماعة «فيصل العسلي»، وأنا وعلي أيوبي وأنور زركلي من الحزب الشيوعي، ولم تكن جلسة من جلساتنا تخلو من نقاش فكري وسياسي يحتدّ حيناً ثم يعود إلى الهدوء في أغلب الأحيان، ونبقى أصدقاء يضمنا فريق كرة قدم أنشأناه معاً، نلعب في بستان دياب آغا قرب طاحونة «الشنان» ونقوم برحلات إلى الغوطة ونرتاد المسابح ونصعد إلى قمة قاسيون رغم تباين «المشارب» في مرحلة مرت قبل ستين عاماً، كانت من حيث الواقع أكثر «حضارية» وفهماً وسلوكاً مما نعيشه اليوم ونلمسه من صدامات وانفعالات وممارسات إقصاء وعداء «وافد» دخيل على البيئة السورية الوطنية «يعاكس» مجرى الحياة الطبيعية، مما يدعونا إلى التساؤل: هل الحياة تسير نحو التقدم والرقي والحضارة كما يتمنى ويسعى كل الوطنيين؟ أم ستتجه مرتدةً نحو الخلف والقهر والعبودية كما يريد ويستشرس الظالمون وصنّاعهم من إمبرياليين وصهاينة، لتدمير الوطن وسفك دم أبنائه، وهذا السؤال برسم كل السوريين.
ولست أجافي الحقيقة إن قلت- وهذا ما تعلمته مع الرفاق في صفوف الحزب والتزمناه-:
إن الصراع كان ومازال بين الشعوب وأعدائها، بين المستكبرين والمستَضعَفين، بين الوطنيين واللاوطنيين. وإن البشرية وشعبنا من ضمنها ستواصل مسيرتها الصاعدة رغم أنف الظلم والظالمين، أنف الظلّام والظلاميين، ولن تعود عجلة التاريخ إلى الوراء، وقد أحسن الشاعر الجواهري التعبير في وصف ذلك:
من سائرين القهقرى لم يعرفوا
بين الجهاتِ الستِّ غيرَ وراءِ
ويتابع بتفاؤل يملأ صدره وصدور كل الثوريين:
دوّى على المستعمرينَ صواعقاً
وعيُ الشعوبِ ويقظةُ الدَهماءِ
وتكشّفوا عرياً على أضوائها
مثل اللصوص بليلةٍ قمراءِ
ستدوسُ أقدامُ الشعوبِ كخرقةٍ
مهروءةٍ من كان سوطَ بلاءِ
ثم تفيضُ قريحته فيجهر بمكنون نفوسنا مخاطباً حاضرة سوريتنا الغالية:
يا بنتَ «مروانٍ» يُركّزُ رايةً
حمراءَ فوقَ رمالكِ السمراءِ
جلَّ العُلا أبُنيتِ من أشلاءِ
أرفعتِ فوقَ جماجمٍ ودماءِ؟
لله أنتِ أكلُّ يومكِ حاشدٍ
برجولةٍ ومروءةٍ وفتاءِ؟