من الذاكرة : برلمان شعبي داخل الحافلة
تعاود ذاكرتي بين فترة وأخرى صورٌ من زمن الطفولة، ولاسيما صورة «البوسطة» التي تقل الركاب من حينا إلى ساحة المرجة ذهاباً وإياباً والذين لا يتعدى عددهم عدد المقاعد، وكانت لا تسير إن وجد فيها راكب «على الواقف» وأجرة الركوب سبعة قروش ونصف لعامة الناس، وخمسة قروش لطلاب المدارس.
والآن سأتناول في حديثي آخر «حلقة» من مسلسل ركوب الباص فقد صعدت يوم أمس إلى الباص القادم من مساكن برزة إلى شارع الثورة و«انحشرت» لصق الباب ضمن «حمولته» من الركاب المضطرين لركوبه، وعند موقف الفيحاء قبل الحاجز الأمني بحوالي مئتي متر ترجل عدد كبير من ركابه «المستعجلين» ليتابعوا ما تبقى من مسافة سيراً على الأقدام حتى لا ينتظروا قرابة الساعة لاجتياز تلك المسافة المحدودة، وبنزولهم أتيح المجال لباقي الركاب أن يروا وجوه بعضهم بعضاً، وفجأة ارتفع صوت أحدهم سائلاً السائق: لماذا تأخذون خمساً وعشرين ليرة أجرة، بينما الميكروات تأخذ خمس عشرة ليرة فقط؟
ــ السبب «يا عيني» أن تكاليف ورسوم الباص أكثر بكثير من تكاليف الميكرو، وأنت تعرف أن كل الأسعار قد ارتفعت.
ــ نحن نتكلم عن تسعيرة الركوب فلا تجرنا إلى غيرها من الأمور.
ــ أنا أتحدث عن واقعنا الصعب، فالأسعار نار، تصوروا اشتهيت للأطفال بطيخة فكلفتني ثلاثمائة وخمسين ليرة، وأجرتي في اليوم لا تتعدى هذا المبلغ.
وكان هذا القول بداية «لجلسة» برلمان شعبي شارك فيه أغلب الركاب، ومما التقطه سمعي هذه النماذج:
- التجار يستغلون حاجات الناس ويحتكرون المواد ثم يرفعون أسعارها.
- الدولار ارتفع فارتفعت الأسعار ثم انخفض وبقيت الأسعار مرتفعة.
- على الدولة أن تقوم بواجبها وأن تهتم بالمواطنين الفقراء.
- اللصوص ينهبون الشعب ولا أحد يردعهم.
- يا ناس نحن في حالة حرب، والبلاء الكبير في استمرارها.
- عين وصابت هالبلد.
- هذا البلاء نتيجة لما نرتكبه من ذنوب.
- كلامك ليس صحيحاً، فالذنوب يرتكبها من يسرقون لقمة عيشنا.
- الذين ينهبون الشعب لا يقلون خطراً عن الارهابيين الذين يفتكون بالأبرياء.
- من الضروري وقف القتال، ومن لا يريد ذلك مجرم كائناً من كان.
عند هذا الحد وصلنا إلى الحاجز الأمني أمام مشفى الحياة فرفعت «الجلسة» مؤقتاً وران صمت قلق لدقائق، ثم انطلق الباص بسرعة وهبت نسيمات منعشة بردت الكثير من الجو الحار الخانق، ولتبقى في أذهان الركاب أصداء ذلك النقاش الذي سيأخذ مجاله الواسع على ساحات الوطن.