عودة إلى الأبجديات
الموعد الذي حدده «اتفاق وقف النار» في غزة لبدء مفاوضات تنفيذ بنوده يقترب، وليس من إشارة تفيد بوجود نية لذلك. وتفيد كل المؤشرات بارتفاع مستويات التوتر في القطاع، وارتفاع نغمة الحديث عن احتمالات استئناف الحرب في تل أبيب!
فبعد مرور أسبوعين على توقيع "الاتفاق"، لم تحل ولا مشكلة واحدة من المشاكل التي خلفتها الحرب، بما في ذلك موضوع المعابر واستمرار هدم الأنفاق على الحدود . ويقول مسؤولون فلسطينيون في غزة إنه حتى الآن لم تبدأ إجراءات رفع الحصار، وما زالت الحركة التجارية من وإلى القطاع كما كانت من دون تغيير. في الوقت نفسه استمرت الخروقات "الإسرائيلية"، ما بين إطلاق النار على المزارعين والصيادين واعتقال بعضهم، وتقليص المدى المسموح به للصيد، وبين توغلات دبابات الجيش "الإسرائيلي" في منطقة خان يونس كان آخرها يوم 11سبتمبر/أيلول الجاري .
وحده موسى أبو مرزوق، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة (حماس)، بدا متفائلا، وقال في ندوة نظمتها (حماس) في غزة، إنه "من المتوقع أن تستأنف المفاوضات غير المباشرة مع "الإسرائيليين" الأسبوع المقبل" . لكنه أضاف: "حتى الآن لم نبلغ بموعد محدد"! أما الأسوأ في هذا المناخ غير المبشر، فيتمثل في التصعيد المتعمد والتراشق بالاتهامات بين حركتي (فتح) و(حماس)، والذي يقوده الرئيس محمود عباس بتشجيع من أنصاره في الداخل والخارج تحت عنوان "عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع"، كشرط للبدء في إجراءات رفع الحصار والإعمار .
في هذا الإطار، إطار إعادة السلطة الفلسطينية إلى القطاع كمرجعية أولى وأخيرة في كل ما يتعلق به، تحدث الرئيس محمود عباس مؤخراً عن "حكومة الظل في غزة" وعن "سلطة واحدة وسلاح واحد" وعن "قرار الحرب والسلام"، وكلها أحاديث ليس من شأنها إشعال النار في هشيم الخلافات، نار لا يمكن أن تحرق إلا الشعب الفلسطيني، ليس في القطاع فحسب بل وفي الضفة أيضا . نار توقدها بشكل واضح القوى الامبريالية، الأمريكية والأوروبية، على حد سواء، لخدمة أغراض "إسرائيل" . ومن أمثلة ذلك ما أدلى به سفير الاتحاد الأوروبي في تل أبيب،لارس فابورغ أندرسون، الذي قال في حديث للصحفيين إنه "يخشى من استئناف الحرب في غزة"، مشيرا إلى أن أي اتفاق طويل الأمد "ينبغي أن يوفر مطلب إعادة إعمار القطاع واحتياجات "إسرائيل" الأمنية" . ومعروف أن "احتياجات إسرائيل"" الأمنية" تعني نزع سلاح المقاومة . ولهذا الغرض يدعو إلى العودة سريعاً إلى مفاوضات القاهرة .
في هذا الوقت، صاغت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، رسالة موجهة إلى وزير الخارجية جون كيري يؤيدون فيها جهوده في دعم السلطة الفلسطينية و"العمل على عودة سيطرتها على قطاع غزة" . وقد رحبت منظمة "أيباك" بالرسالة بل وأدخلت عليها بعض التعديلات أيضا، وستقدم إلى كيري يوم 18 الجاري !
عند هذا الحد يبدو أننا مجبرون في أكثر الأوقات أن نعود إلى الأبجديات وألفباء الصراع الدائر مع الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية، وهذا يشتمل على عدد من البديهيات:
- القيادة "الإسرائيلية" لم ولن تعطي الفلسطينيين شيئا في يوم من الأيام طواعية واختيارا وإن لم تجبر على ذلك بالقوة . ومن يشكك في هذا القول عليه فقط أن يراجع تاريخ القضية الفلسطينية .
- الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي شريكان أصيلان في الاغتصاب الصهيوني والاحتلال "الإسرائيلي" منذ بداية المؤامرة والصراع وحتى اليوم وفي المستقبل . وما يقدمانه للسلطة الفلسطينية هذه الأيام مشروط بتحقيق الأهداف "الإسرائيلية" ولا يصلحان وسيطا أو رعاة حل أو سلام .
- السلطة الفلسطينية المقيدة بقيود أوسلو لا تملك من أمرها شيئاً، وأهلها وصفوها بأنها "وكيل أمني" للاحتلال، فكيف وعلى أية أسس يمكن أن تتطلع إلى مصالحة حقيقية أو تؤتمن على الثوابت والحقوق الوطنية؟!
- الوحدة الوطنية الحقيقية لا تقوم على أساس "تقاسم النفوذ والمصالح الخاصة" بين الأطراف السياسية، بل تقوم على أساس الأهداف المشتركة للشعب و"التقسيم الوظيفي" والأدوار لخدمة القضية الوطنية وخدمة هدفي التحرير والتحرر الوطني .
- بعيداً عن أي موقف أيديولوجي، هناك قاعدة تفرض نفسها في حركات التحرر الوطني والشعوب الواقعة تحت الاحتلال: الأرض لمن يحررها، لمن يدافع عنها، لمن يقاتل في سبيل تحريرها، لمن يموت من أجلها . تسليمها للمستسلمين وكلاء الاستعمار وجنرالات الاحتلال خيانة وطنية يحاسب ويعاقب عليها كل من يقترفها بأشد العقوبات .
- المقاومة الوطنية لا تفاوض إلا من موقع القوة والاقتدار اللذين يفرضان شروط الانتصار ولو مرحليا . والسياسة الوحيدة عندها التمسك بالثوابت الوطنية في التحرير والكفاح المسلح المتواصل الذي لا غرض له إلا مصالح الشعب في الحرية والتحرير، وليس من أجل سلطة أو نفوذ أو مصالح فصائلية أو حزبية فئوية .
إن التمعن في الموقف الراهن يكشف عن أنه متجه إلى أحد سيناريوين:
1) عدم استئناف مفاوضات القاهرة - المصادر "الإسرائيلية" تحدثت خلال الأسبوعين الماضيين عن عدم نية نتنياهو إرسال وفده المفاوض، وإبقاء الباب مفتوحا لإجراءات أحادية الجانب، وبالتالي إبقاء الباب مفتوحا على احتمالات استئناف الحرب من خلال "العمليات العسكرية" المحدودة .
2) استئناف مفاوضات القاهرة - على أساس وضع العقدة في المنشار من خلال مطلبين "إسرائيليين": عودة السلطة إلى القطاع، وإعمار القطاع مقابل نزع سلاح المقاومة فيه .
لذلك يظل الاحتمال الأقوى هو استئناف الحرب .
المصدر: الخليج