«المليارديرية»... و«سلسلة الرتب والرواتب»
لخصت المقالات التي نشرت مؤخراً في الصحافة، بشكل جيد، النقاشات الدائرة حول كتاب توماس بيكيتي «رأس المال في القرن 21». وتدور كلها حول فكرة الكتاب الأساسية: هل تخلق الرأسمالية بالضرورة التفاوت الاقتصادي، وهل هذا التفاوت يكبر أبداً؟يستنتج بيكيتي أن الآلية الرأسمالية لا يمكن إلا أن تنتج تفاوتاً دائماً وفي ازدياد.
ويضيف أن البيانات الموضوعية تؤكد ذلك منذ أكثر من قرنين في الدول الرأسمالية المتطورة، وأن ما يوقف تلك التفاوتات هي الحروب والثورات. ويدعو الحكومات إلى الأخذ بعين الاعتبار تلك المسألة قبل أن يقع «غير المرغوب به». أما الايديولوجيون من الجمهوريين والليبراليين الجدد، وصحفهم من «وول ستريت» و«فاينشال تايمز» و«ايكونوميست» الخ... فيفضلون عدم النقاش في الموضوع، ويعتبرون أن سلسلة الأرقام التاريخية خاطئة وغير علمية، أو ان التفاوت الكبير هو استثناء في التاريخ. يبقى ان المصْلحين يعتقدون ان المستوى المعيشي يعود ويرتفع مجدداً، فينخفض التفاوت وإلا حصلت أزمة كبرى إذ لا يستطيع «العرض» من أصحاب «رأس المال» ان يسيّل بضائعه نتيجة عدم وجود «الطلب» إذا ما انخفضت نسبة مداخيل الشعب من الدخل القومي. وقد تكون هذه الفكرة الأخيرة، هي التي تفسر دعوة بعض الحكماء الأثرياء مثل الملياردير الاميركي «وارن بافيت» إلى التخلي عن قسم من الأرباح وإعادة تدوير بعض الفائض الربحي من خلال رفع الضرائب على الأثرياء. وأن هذا يفسر مرونة النظام الرأسمالي الذي يتأقلم دائماً من خلال الأزمات.
الوراثة أساس الثروة
لا تكمن أهمية هذا الكتاب إذاً في اكتشافاته المهمة، بل إلى انه استعمل بيانات إحصائية (مركبة) لأكثر من 200 سنة ليصل لما يشبه القانون الاقتصادي، وهو أن معدل الربح يزداد بسرعة أكثر من معدل النمو الاقتصادي للدخل القومي، وبالتالي فإن حصة رأس المال من الدخل القومي ستزداد على حساب العمل.
إذاً لماذا كل هذه الضجة؟ لأن الكاتب من «السراي»، دَرَسَ ودَرّس في أهم الجامعات الأميركية، ونشر كتابه في ظرف اقتصادي استثنائي، نراه في بيانات البنك المركزي الأميركي، إذ وصل معدل الربح في الولايات المتحدة الأميركية إلى أعلى مستوياته في التاريخ الحديث (حوالي 15 في المئة من الدخل القومي بينما كان 9 في المئة سنة 1988 وحوالي 5 في المئة بعد الحرب العالمية الثانية). وهذا بالطبع يحصل على حساب حصة الأجور من الدخل القومي (60 في المئة بينما كانت 66 في المئة سنة 1988 وأكثر من 70 في المئة بعد الحرب العالمية الثانية). وهذا الوضع هو الذي دفع الى نشوء حركة «احتلوا وول ستريت»، وإلى الإضرابات لأول مرة منذ زمن طويل، والمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور، حتى أن اوباما دافع عن ضرورة رفع الحد الأدنى بحوالي 50 في المئة.
يأتي هذا الكتاب ليقول إن النظام الرأسمالي لا يقوم على بنية «الجدارة» (Meritocratic) بل على وراثة رأس المال بالمعنى العريض، أي الأموال والاستثمارات الثابتة. فالتفاوت ليس فقط في الدخل إنما، وبالتحديد وبالأكثر، في الثروة. فهذه المقولة تعيدنا قروناً إلى الوراء، إذ لا يتعدى النظام الا أن يكون «عصرنة» للإقطاع، وهذا خطر بالضرورة على النظام الديموقراطي، إذ يصبح أصحاب الرأسمال هم أنفسهم أصحاب القرار السياسي، على الأقل بما يتعلق بالنظام الضريبي، فتتعطل الديموقراطية إذ يمنع ذلك النقاش الديموقراطي في النظام الضريبي واحتمال إعادة توزيع قسم من الثورة. الواضح أن هذه المسألة، أي التفاوت الاقتصادي، أخذت حيزاً كبيراً من الاهتمام، وبدأت فكرة وضع ضريبة تصاعدية على الثروة تشق طريقها، وهذه من أخطر الأفكار المناهضة للفكر الليبرالي في الغرب كما في المنطقة العربية.
المنطقة العربية
ما يهمنا من كتاب بيكيتي ذاك هو ما لم يتطرق له إلا عرَضاً، كما فعل كل الاقتصاديين الكلاسيكيين الغربيين، من ريكاردو إلى ماركس: كيف يحل المجتمع الغربي أزمة انخفاض معدل الأرباح، حتى يعود فيرتفع، كما حصل في أعوام 1990 و2001 و2008؟الحل هو عبر:
1 ـ التطور التكنولوجي.
2 ـ الخارج.
3 ـ إعادة توزيع الدين والثروة بين القطاع الخاص والدولة.
النظام الرأسمالي هو أكثر الأنظمة في التاريخ تطويراً للتكنولوجيا، كحل لانخفاض معدل الأرباح... إلا أن الثورات التكنولوجية تقع من حين لآخر، وفي محطات، وهي بالتالي ليست حلاً دائماً. وعندما تحصل الأزمات، يلجأ النظام الرأسمالي إلى المسألتين الثانية والثالثة، كل على حدة أو معاً، كما حصل في آخر ثلاثين عاماً عبر ما سُمّي بالليبرالية والعولمة: أدّت الليبرالية إلى انتقال الدَين من الشركات الكبيرة إلى الدولة، وأدت العولمة إلى إعادة توزيع قسم من الأرباح على الصعيد العالمي. فمردود رأس المال الخليجي في استثماراته الغربية منخفض جداً، إذ لا يتعدى الفائدة على سندات الخزينة، بينما الاستثمارات الغربية في البلدان «الفقيرة» مرتفعة جداً سواء أكانت في الفنادق أم في بعض الصناعات.
ما يعنينا من كتاب بيكيتي مباشرة، في المنطقة العربية، لا يتعدّى الصفحة، ويدور حول التفاوت الاقتصادي الكبير الحاصل بين الدول النفطية وغير النفطية، وهذا أمر ليس بجديد حتى وإن كان ما يميزه حالياً عن السابق هو حجم التراكم في الثروات والتفاوت في الدخل اللذين وصلا إلى مستوى لم يعهده تاريخ المنطقة. واذا كانت هذه الثروات هي بشكل أساسي نتيجة عدم التوزيع المتكافئ للثروات الطبيعية، فإن الرأسمالية الليبرالية مسؤولة عن «مليارديرية من نوع جديد» (في الدول غير النفطية) ترعرعوا وكبروا في أحضان الليبرالية الاقتصادية الرأسمالية وعلى حساب الحكومات أحياناً، من خلال الخصخصة... فأصبحت هذه الأخيرة هي الايديولوجية المهيمنة، سواء أكنت معارضاً أو في الحكومة، كردياً أو عربياً أو تركياً، شيعياً أو سنياً أو مسيحياً. هكذا أصبحت الثروات في المنطقة العربية أحد المداخيل الأساسية للحصول على النفوذ السياسي. فالتوسّع الرأسمالي أدى في البلدان النامية إلى ادخال الحلقة الاقتصادية في الحلقة السياسية. فالرجل السياسي فاحش الغنى يُنتخب من خلال خدماته ومساعداته الشخصية، وليس عبر برنامجه السياسي. الدولة ضعيفة مديونة، والذين يحكمون هم في وضع اقتصادي أفضل من دولتهم! هذه الدولة ليس فحسب غير قادرة على إعادة توزيع الدخل، بل هي أيضاً، بالإضافة إلى التفتت الداخلي، خاضعة لشروط خارجية
.... ومن هنا ربما يمكن فهم مشكلة سلسلة الرتب والرواتب!
السر!
يبدو للوهلة الأولى أن أكثر الوزراء والنواب مقتنعون بإقرار سلسلة الرتب والرواتب. فلا يوجد أحد يعترض علانية على ذلك. فلماذا لم تقر إذاً؟ لا يوجد إلا تفسير منطقي واحد، وهو أن الأولياء على اتفاقات باريس 1 و2 و3، وكما جرت العادة في هذا النوع من الاتفاقات (إعادة جدولة الديون) وعدوا بأن يلتزموا بقرارات معينة، منها رفع الدعم عن بعض السلع كالكهرباء (خطاب النيات المرفوع من قبل الدولة اللبنانية الى الدول المشاركة في باريس 3 ـ بند 86/ 89)، وعدم رفع الأجور والتوظيف في القطاع العام، لا بل العمل على تخفيض حجم هذا القطاع، وخاصة قطاع الأساتذة (بند 73/74)، والعمل أيضاً على الخصخصة (تقرير 2008 ص 4 المرفوع من الدولة اللبنانية الى صندوق النقد الدولي).
فالدولة لا تستطيع أن تتنصل من التزاماتها التي أمّنت لها إعادة جدولة الديون، خاصة اذا علمنا ان لبنان من أكثر البلدان مديونية في العالم، قياساً على الدخل الوطني.
أما الحجج الأخرى التي قد تستخدم من حين لآخر لمنع رفع الأجور، وخاصة بمفعول رجعي، كالتضخم وعدم المنافسة وإلى ما هنالك، فهي تعاني من مشكلتين أساسيتين، أولها أن ما يصدّره لبنان من مواد زراعية وخدمات مصرفية لا يتأثر كثيراً بارتفاع الأجور، فالأولى تستخدم عمالاً سوريين بأجور منخفضة جداً أما الثانية فربحها الأساسي يتولد عن الفارق بين الفوائد على سندات الخزينة والودائع.
خلاصة
إن توسّع الدول الغربية خارج حدودها لحل أزمة معدل الأرباح يصبح مشكلة داخلية في البلدان النامية من خلال فرض الأولى لشروطها، فيؤدي إلى ازدياد التفاوت الاقتصادي من خلال إضعاف الدول - خاصة غير النفطية
- وخلق ثروات كبيرة نتيجة الخصخصة والانفتاح الاقتصادي. مفعول توسع الرأسمالية على مجتمعاتنا له إذاً سلبيات على المستوى المعيشي أكبر من تلك الحاصلة في الغرب، وإن دولاً كبيرة في المنطقة مثل تركيا رأت التفاوت فيها يزداد بشكل كبير مع انفتاحها على السوق العالمي، ومع ارتفاع النمو. فكان التطور الاقتصادي لا يفيد كل أطياف المجتمع بل فئة صغيرة على حساب المجتمع... إلا أن أحداً لا يتعلم من الماضي. فعلى الرغم من كل الأخطاء السابقة، فالمنتصر، أكان السيسي أو قبله مرسي، سيزيد التفاوت الاقتصادي، لأن المطلوب من الحاكم، كائناً من كان، تنفيذ «الوصايا العشر» ( او «توافق واشنطن» في 1989 الذي أقر كيفية التعامل مع ديون العالم الثالث وفق عشرة «إصلاحات»).
أهمية بعض الكتاب كبيكيتي، انهم يكشفون للناس من حين لآخر ان الواقع الذي يعيشونه ليس بمنزَّل ولا علاقة له بالسوق، بل إنه نتاج عوامل سياسية تضحي بفئة على حساب أخرى. فالقواعد والبنية الاجتماعية تعيدان إنتاج نفسيهما، كما لو أنها قواعد إلهية، تجعل من صندوق النقد الدولي ومن الخصخصة... عبادة.
المصدر: السفير