فلتسقط السلطة ولْيعُد الاحتلال.. والتحرير آت
يحذر الكاتب الإسرائيلي «داني روبنشتاين» صناع القرار الإسرائيليين من المضي الى النهاية في مسلسل إذلال القيادة الفلسطينية، ومن الإمعان بحشرها في مربع مغلق بلا أي منافذ للحركة السياسية، موضحاً أن السلوك الذي تنتهجه حكومتهم الحالية من شأنه أن يقود الفلسطينيين في نهاية المطاف الى الإقدام على خطوات يائسة، قد تودي تبعاتها بمجمل مشروع التسوية الجارية بين كلا الطرفين، وتترك إسرائيل في مواجهة أزمات كارثية لا قِبل لها على احتوائها.
روبنشتاين حدد بأن المقصود بتحذيره هذا هو خيار حل السلطة الفلسطينية واستدعاء الاحتلال الاسرائيلي مجددا للأراضي الخاضعة للسيطرة الفلسطينية في الضفة وغزة مع ما يترتب على هذه الخطوة من تحميل اسرائيل المسؤولية القانونية والسياسية عن تلبية الاحتياجات المعيشية والتنظيمية لسكان هذه المناطق، وهو ما سيشكل عبئاً اقتصاديا وسياسيا وحتى أخلاقيا، لا يمكن لإسرائيل أن تستوفي متطلبات حمله.
السلطة الفلسطينية التي نشأت عقب توقيع اتفاقية اوسلو العام 1993 كمحصلة ابتدائية لهذا الاتفاق، حُددت وظائفها المعلنة بتشكيل نواة الدولة التي كان من المفترض، بحسب الاتفاقية، إعلانها لاحقا في المرحلة النهائية من مسار التسوية والمفاوضات مع الجانب الاسرائيلي، بالاضافة الى تنظيم شؤون حياة المواطنين الفلسطينيين في الضفة والقطاع خلال هذه الفترة الانتقالية.
ما حدث أن المفاوضات التي أقبل الجانب الفلسطيني عليها في البداية بحماسة صبيانية، انهارت عند أول احتكاك من قِبل الطرفين مع عناوين الحل النهائي كالقدس واللاجئين وحدود العام 67...
انهيار توّج بانتفاضة العام 2000 التي فتحت فصلا جديدا في العلاقة مع الجانب الاسرائيلي، أقل ما يقال فيه ان أساليب الأخير في تعاطيه مع الفلسطينيين، لا تمت من قريب أو من بعيد إلى تعاليم السلام والإنسانية التي كان قد وعدهم بها عندما استدرجهم والغرب من ورائه الى العاصمة النرويجية وحديقة البيت الأبيض.
أما التجربة المريعة التي قدمتها السلطة منذ اليوم الاول لتشكيلها على صعيد الإدارة والتنظيم، فهي لا تعكس ما قالته أطراف العملية السلمية عند تصميمها وتكوينها جهاز السلطة المدني والأمني، حول الواقع المعيشي الباهر للفلسطينيين الذي سينشأ في كنف هذا الجهاز، ولناحية تشكيله نموذجا بديعا عن المكاسب التي تجنيها شعوب ودول المنطقة التي تنخرط في العملية السلمية مع اسرائيل. هكذا، مثلاً، كان النقاش يدور في صفوف رواد مشروع التسوية حول مستقبل التنمية في أراضي الحكم الذاتي بعد «أوسلو»، هل سيكون شبيهاً بدبي ام بسنغافورة؟
إلا أن هذا المشروع الطموح بدأ بسلسلة فضائح فساد مالي وإداري طالت السلطة ورموزها، وانتهى بصراع بين ميليشيات متناحرة على سلطة وهمية أسفر عن وطن ممزق بين شطرين، يتمحور النشاط السياسي للقيادة القائمة في كل شطر فيه على تسول الغذاء والأدوية ورواتب موظفي جهازها الحكومي.
خيار حل السلطة الفلسطينية كان قد تم تداوله خلال العامين الماضيين بكثرة، بالتزامن مع طرح قضية التصويت لمنح صفة «الدولة» لفلسطين في الامم المتحدة، وذلك كرد فعل محتمل إذا أُفشل إصدارالقرار في الجمعية العامة. وقد خضع لنقاشات في أوساط الفصائل والنخب الحزبية الفلسطينية، سرعان ما دخلت على خطها مراكز ومؤسسات المجتمع المدني الممولة أجنبياً، والتي تلقفت العنوان وحوّلته إلى مادة لعدد من المؤتمرات والورش، أبرزها على الإطلاق كانت سلسلة من اللقاءات التي عقدت على مدار ستة أشهر متواصلة بمشاركة مجموعة كبيرة من القيادات السياسية والاكاديميين. وقد خلص هؤلاء في تقريرهم النهائي، بحسب مدير الجهة المنظمة، الى ان «حل السلطة خيار مرفوض من غالبية المواطنين الفلسطينيين الذين يرون أن مصالحهم كأفراد باتت مرتبطة باستمرارية مشروع السلطة، والتي تشكل أداة لتحقيق أمنهم الذاتي والإشراف على تنظيم أمورهم الحياتية».
اذا ما تجاوزنا التسليم اليائس والخفة التي ترافق أداء الطبقة السياسية في فلسطين عند نقاشها الاستحقاقات الوطنية، فإن خيار حل السلطة الفلسطينية بات عنوانا صالحا لصوغ استراتيجية فلسطينية كفيلة بترميم الانهيارات. فاستعادة الاحتلال بمعناه المباشر ستشكل أداة تعريفية لماهية الفلسطينيين من جديد، باعتبارهم الجماعة الواقعة تحت نير سيطرته العسكرية في أراضيها، مضافا اليها التجمعات البشرية المشتتة والمتضررة بفعل هذا الاحتلال.
كما ان إعلان هذه الخطوة سيعيد إلقاء القضية الفلسطينية في حِجر المجتمع الدولي وتحميله مجددا المسؤولية الأخلاقية والسياسية عنها، باعتبارها تركة ثقيلة من مخلفات الاستعمار القديم لبلادنا، وكارثة إنسانية مستمرة بفعل الصفة الاستعمارية والعنصرية للكيان الاسرائيلي، الذي يشكل الوجه الآخر لهذه التركة. كما أن ذلك سيضع حدا للحلول العدمية غير القابلة للتحقق في ضوء الوقائع المادية المستجدة على الأرض كـ«حل الدولتين».
قرار حل السلطة هو نواة برنامج الخلاص الوطني للفلسطينيين في الوقت الحالي، إذ إنه سيعيد نقل القوى الفلسطينية من موقعها كأطراف تدير شؤون الاحتلال الاسرائيلي غير المباشر في مناطق سلطتها، الى موقعها الأصلي كحركات تحرر وطني، يقوم برنامجها على تحرير فلسطين واستعادة حقوق أهلها وتقويض كل الاتفاقات المعقودة بين اسرائيل والأطراف العربية وجعلها مجددا بلا معنى.
الفلسطينيون بدون سلطة، عددهم بالملايين، وهم منتشرون في كل مكان، لا فواصل سياسية وتعريفية تحددها اسرائيل بينهم. أرضهم هي كل فلسطين، وساحات فعلهم حيفا وجنين وغزة وكل مخيمات الشتات.
فلتسقط السلطة، وليأتِ الاحتلال ويبدأ التحرير.
المصدر: السفير