أزمة الرأسمالية وتداعياتها على الاقتصاد الأميركي... إضراب نقابة عمّال السيّارات نموذجاً
منذ الأزمة المالية العالمية التي انفجرت عام 2008، بات واضحاً أنّ النظام الرأسمالي يعيش تضعضعاً بنيوياً يولّد كلما وصلَ لحائطٍ مسدود أزماتٍ متكرّرةً قد تؤدّي في نهاية المطاف إلى انهيارٍ كلّي لا تُحمَد عقباه.
إحدى هذه الأزمات تجلّت في الركود الاقتصادي الذي خلّفته جائحة كورونا على الاقتصاد الأميركي تحديداً، والذي تعمّق أكثر مع اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية التي هزّت تداعياتها الاقتصاد العالمي ككلّ.
أحد أوجه الأزمة الراهنة هو التضخّم الاقتصادي الذي حافظ بين عامَي 2015 و2020 على نسبة تقارب الاثنين بالمئة، قبل أن ترتفع عام 2021 إلى 7% لتصل عام 2023 إلى 3.1% رغم كل محاولات البنك الفدرالي لخفضه عبر رفع الفائدة تدريجياً، والتي وصلت إلى 5.5% نهاية 2023 بعد أن كانت ربع نقطة مئوية فحسب نهاية عام 2020. ومن نتائج هذه السياسة الاقتصادية المتّبعة من قبل الاحتياطي الفيدرالي، وصول نسبة البطالة إلى 3.7% نهاية 2023 مع توقعات بارتفاعها لتلامس 4% مطلع 2024.
نتيجة لهذا الوضع الاقتصادي الصعب، قرّرت نقابة عمال السيارات (UAW) في 15 أيلول الفائت، الدخول في إضراب بثلاثة مصانع لأكبر ثلاث شركاتٍ لتصنيع السيارات في الولايات المتحدة: فورد، جنرال موتورز وستيلانتيس، إذْ دام هذا الإضراب لمدة ستة أسابيع ويُعدّ من أكبر الإضرابات التي شهدتْها الولايات المتحدة منذ عقود، حيث شارك فيه نحو 45 ألف عاملٍ، مما يعادل نسبة 31% من مجموع العمال المنتسبين إلى النقابة.
كيف بدأ الإضراب؟
قبل ساعتين من حلول منتصف ليل الجمعة في 15 أيلول، أعلن «شون فين»، رئيس نقابة عمال السيّارات المتّحدين، أنّ الإضراب سيبدأ في 3 مصانع من كل مجموعة من الشركات الثلاث الكبار لتصنيع السيارات، وذلك بغرض التوصّل إلى اتّفاق بشأن عقود العمل الجماعية الجديدة، مطالباً بزيادة الرّواتب (بنسبة 40% على أربع سنوات وهو ما يعادل ما استفاد منه قادة هذه الشركات خلال السنوات الأربع الماضية) وتحسين التقديمات الأخرى كاستعادة المعاشات التقاعدية، وتقليص العمل إلى 32 ساعة في الأسبوع، وضمان الأمن الوظيفي، ووضع حد لاستخدام العمال المؤقتين. أضف إلى ذلك أنّ انتقال صناعة السيارات من التقليدية إلى الكهربائية والتحول نحو الأتمتة، ينذر بتقليص عدد العاملين في المصانع، ما سيؤدي إلى استبعاد عمّالٍ أكثر، ممّا يفاقم من أزمة البطالة في البلاد. وبالفعل، فقد حصل الإضراب بعد فشل المفاوضات بين النقابات والشركات، إذ أضرب حوالي 13 ألف عاملٍ في مصنع جنرال موتورز (ينتزفيل - ميسوري)، مصنع ستيلانتيس (توليدو -أوهايو) ومصنع فورد (واين - ميشيغان).
باءت محاولات الشركات لفضّ الإضراب بالفشل، وعلى عكس التوقعات، ازدادت نسبة العمّال المضربين بالرّغم من محاولات الشركات عبر إرهابهم تارةً ومن خلال المفاوضات طوراً.
«بينما البخيل هو رأسمالي أصيب بالجنون، فإنّ الرأسمالي هو بخيل عقلاني» - كارل ماركس.
بعد مرور عشرة أيّامٍ على بدء الإضراب، وبعدما بدأت تظهر انعكاساته على الاقتصاد الأمريكيّ المأزوم بالفعل، والتي بدأت ملامحه تظهر جليّاً خلال السنة الحالية مع ارتفاع معدّلات التضخّم والبطالة والفائدة وارتفاع تكاليف المعيشة، قرّر الرئيس جو بايدن التضامن مع العمّال المضربين والنقابة (حاشا أنْ يكون تضامنه موقفاً مبدئيّاً إذ إنه كغيره من ساسة هذا البلد استغلّ هذا الحدث ليصبّ في حملته الانتخابية)؛ حيث زار المعتصمين في ديترويت معلناً دعمه القوي لجهود المضربين ودعاهم إلى الاستمرار به مخاطباً إيّاهم: «حقيقة الأمر هي أنكم يا رفاق، أنقذتم صناعة السيارات في عام 2008 وما قبله. قدمتم الكثير من التضحيات، وكانت الشركات في ورطة لكنها الآن في وضع جيد بشكل لا يصدق وخمّنوا ماذا، يجب أن تكونوا أنتم أيضاً في وضع مماثل».
لم يضف «العم جو» شيئاً جديداً، ولم يسعَ بمجيئه سوى إلى الأمل بحصد أصواتٍ لحملته الانتخابية - الأمر الذي بدا جليّاً - لأنه وفي نهاية المطاف، لا يبدو كمن يأبه إلى ما آلت إليه الأحوال في البلاد مِن تردٍّ واضحٍ في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
لقد أدّى هذا الإضراب بالفعل إلى توقف الإنتاج في المصانع التي يعمل بها عمّال النقابة، وبحسب «فين»، فإنّ الهدف من ذلك هو الحصول ولو بأقلّ قدرٍ على العدالة التي يطمح لها العمّال المنتسبون للنقابة، خاصّةً بعد الإجحاف الذي لَقُوه إثر جائحة كورونا، حيث ظلّوا يعملون لساعاتٍ طويلة داخل المصانع على الرّغم من جميع التحذيرات التي أصدرتها السلطات. أضف إلى ذلك، أنّ أجورهم أيضاً لم تتحسّن (في مقابلةٍ مع إحدى العاملات، قالت إنها كانت تعمل يوميّاً لمدة 12 ساعة والإدارة لم تأبه بذلك!). والأمر لم يتوقّف على ما لحق بهم إثر الجائحة، فما كانت هذه الخطوة إلّا نتيجة أعوامٍ من الإجحاف بحقّهم، منذ الجائحة الاقتصادية عام 2008 حتى 2019 عندما قام عمّال النقابة العاملين في شركة جنرال موتورز (48000 عاملٍ) بالإضراب في حوالي خمسين مصنعاً مطالبين بالأمن الوظيفي، وبفتح التوظيف للعمال المؤقَّتين ليصبحوا دائمين، بالإضافة إلى الحصول على أجورٍ أفضل والاحتفاظ بالتأمين الصحّي. استمرّ الإضراب ستة أسابيع، وانتهى عندما قبلت جنرال موتورز مطالبَ النقابة بتحسين الأجور وضمان التأمين الصحي لهم. إذ يتضمن العقد الجديد اتفاقيات تنصّ على أنّ العمّال in-progression workers يحصلون على أجر أربع سنوات من 17 دولاراً في الساعة إلى 28 دولاراً في الساعة بدلاً من ثمانية، وحزم مساعدة بقيمة 75000 إلى 85000 دولار للعمال في المصانع الثلاثة المغلقة، و4% مدفوعات الأجر المقطوع في السنتين الأولى والثالثة مع زيادة الأجر الأساسي بنسبة 3% في السنوات بالتناوب.
كيف انتهى الإضراب؟
في 25 تشرين الأول، تمّ التوصّل إلى اتفاق مبدئي بين النقابة وشركة فورد، حيث يتضمن زيادة في الأجور بنسبة 11% في السنة الأولى، وزيادة إجمالية في الأجور بنسبة 25% على مدار العقد الذي تبلغ مدته أربع سنوات ونصف، بالإضافة إلى مكافأة بقيمة 5000 دولار. وعند تضمين تسويات تكلفة المعيشة يمكن رفع إجمالي الأجر بنسبة 30%. وكجزء من الاتفاقية، سيعود جميع العمال المضربين (عمال فورد) إلى العمل أثناء التصديق على العقود. بعد ثلاثة أيام، في 28 تشرين الأول، أعلنت النقابة عن صفقة مبدئية مماثلة مع شركة ستيلانتيس، وفي اليوم نفسه، انضم 4000 عامل في (Springhill Manufacturing) التابع لشركة جنرال موتورز إلى الإضراب، على الرغم من المحادثات التي جرت في وقت متأخر من ليلة 27 تشرين الأول. وفي 30 تشرين الأول، أعلنت الـ UAW عن صفقة مع شركة جنرال موتورز، مما أدى إلى تعليق الإضراب وعودة جميع العمال المضربين إلى العمل. كما ألغت العقودُ الجديدة نظامَ الأجور ذا المستويَين: حيث كان يتم تصنيف البعض على أنهم "عمّالٌ مؤقَّتون" ويتقاضون أجوراً أقلّ. على سبيل المثال، في شركة فورد سيتم تصنيف العامل المؤقَّت الذي كان يتقاضى في السابق 16.67 دولاراً في الساعة على أنه عاملٌ دائم وسيجني ما لا يقلّ عن 24.91 دولاراً في الساعة. أمّا أولئك الذين بدأوا العمل في العام 2023 أو قبله فسيحصلون على 40.82 دولاراً في الساعة بحلول نهاية العقد إذا بقوا، وذلك بسبب وصولهم إلى الأقدمية الكاملة بالسنوات. وتخضع العقود الثلاثة جميعها للتصديق من قبل أعضاء النقابة.
خاتمة
ممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الإضراب شكّل صفعةً قويّة لقادة هذه الشركات ولساسة هذا البلد أيضاً، فقد كبّد الشركات الثلاث الكبرى حوالي 2.9 مليار دولار، وبحسب «بلومبرغ» فإن المكاسب الكبيرة التي حققها العمال الأعضاء في UAW لن تمثل ضربة قوية للشركات الثلاث كما كانت التصريحات الأولية تحذّر. وفي حين ستؤدي زيادة الأجور 25% وصرف منح لمواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة وغيرها من المزايا للعمال إلى ارتفاع تكلفة كل سيارة تنتجها شركة فورد بين 850 و900 دولار، وخفض هامش الأرباح بين 60 و70 نقطة أساس، قالت فورد إنها تعتزم تعويضَ هذه الزيادة في التكلفة من خلال تحسين كفاءة العمالة، وهي الخطوة نفسها التي ستقوم بها جنرال موتورز وستيلانتس، أضفْ أنّ الإضرابَ قد كلّف هذه الأخيرة أكثر من ثلاثة مليارات دولار خسارةً في الإيرادات، لكنه كلّفها نحو 800 مليون دولار من أرباحها، وهو ما يقلّ عمّا تكبدته جنرال موتورز وفورد.
كثيراً ما نسمع اليوم بعد إضراب الـ UAW عن موجة «اشتراكية» تعصف بالبلاد، وهذا ما ظلّ يحذّر منه جميع سياسيّي البلد، وذلك لما في هذه الكلمة مِن صريرٍ يؤذي آذانهم، لكنْ لا بدَّ من الإشارة إلى ما مفاده أنّ هذه البلاد ما زالت بعيدةً تماماً عن أيّ ريح تغيير اشتراكية، ولو أنّ المطالب إذا ما فنّدناها تحمل هذا الطابع، لكنْ لا بدّ من التنويه أن العقل الرأسمالي ما زال مسيطراً على الشريحة الكبرى للعالم.
في رائعته «عشرة أيام هزّت العالم»، سرد جون ريد بدقّة أحداث ثورة أكتوبر، تلك الثورة التي غيّرت مجرى التاريخ بأكمله، كما أظهر كيف انهار الاقتصاد وتفكّك الجيش ونجحت أول ثورة اشتراكية في العالم. «شون فين» ليس «لينين»، لكنْ علينا ألّا نتجاهل هذا الحدث الذي ستليه أحداثٌ أخرى وأعقد ربّما، خاصةً في ظلّ أوضاعٍ اقتصادية واجتماعية آخذةٍ بالتهاوي يوماً بعد آخَر. من هنا يأتي السؤال: ما هو دورنا في ظلّ هذا العالم الجديد الذي يُبنى؟