تونس.. تشدد في مقاومة التطبيع
تزخر تونس بتاريخ حافل من المقاومة ضد التطبيع الصهيوني، فعندما حاول فلادمير زئيف جابوتنسكي (بولونيا) الأب الروحي لمناحيم بيغن، الذي أسس اتحاداً للصهاينة التصحيحيين الذين كانوا يبشرون علناً بفكرة مفادها «يجب أن توجد أغلبية يهودية في فلسطين، ويجب أن يتم تحقيقها ضد رغبة الأغلبية العربية الحالية في البلد»، القدوم إلى تونس في عام 1927 للقيام بنشاط بين اليهود التونسيين، تظاهرت تونس بأكملها لمدة ثلاثة أيام، ما دفع السلطة الاستعمارية الفرنسية، التي كانت تحتل تونس آنذاك، إلى منعه من دخول البلاد.
والحال هذه، لا غرابة أن يشهد المجلس الوطني التأسيسي في تونس (البرلمان الذي انتخب بعد الثورة في 23 أكتوبر 2011) جدلاً ساخناً حول موضوع التطبيع مع الكيان الصهيوني، على خلفية القضية التي أثيرت مؤخراً، بسبب دخول عدد من السياح الإسرائيليين للبلاد. وكانت أصابع الاتهام في هذا الموضوع موجهة إلى الوزيرين، السيدة آمال كربول وزيرة السياحة، والسيد رضا صفر وزير الداخلية المكلف بالأمن، بأنهما أفسحا في المجال لدخول السياح الإسرائيليين إلى تونس، الأمر الذي يتناقض كلياً مع الثوابت الوطنية والقومية للشعب التونسي المتعلقة بالتطبيع مع الكيان الصهيوني.
وتشغل السياحة في تونس نحو 400 ألف شخص «بشكل مباشر»، وحوالي مليوني شخص «بشكل غير مباشر» بحسب وزارة السياحة التونسية. علماً أن الموسم السياحي لهذه السنة يبشر بالكثير، إذ دخل حوالي مليون ونصف المليون سائح خلال الأشهر القليلة الماضية من هذه السنة، الأمر الذي اعتبره المحللون مؤشراً إيجابياً للسياحة التونسية، التي تمثل الركن الأساسي للاقتصاد التونسي من حيث تدفق العائدات من العملة الصعبة، لا سيما أن البلاد تعيش أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها المعاصر.
وكان أعضاء كتلة «المؤتمر من أجل الجمهورية» وكتلة «حركة النهضة» وعدد من نواب «كتلة التحالف الديموقراطي»، والنائب عن «الحزب الجمهوري» إياد الدهماني، أي أكثر من ثمانين نائباً، قدموا مكتوبتين إلى المجلس الوطني التأسيسي في 24 نيسان الماضي، يتهمان فيهما الوزير المكلف بالأمن الوطني رضا صفر بالسماح كتابياً لدخول سياح إسرائيليين جزيرة جربة في الجنوب لزيارة «كنيس الغريبة»، ما يشكل محاولة «تطبيع مع الكيان الصهيوني»، ووزيرة السياحة آمال كربول باستقبالهم. ونظراً لحساسية الوضع السياسي التونسي، والتداعيات الخطيرة لإثارة موضوع التطبيع على الموسم السياحي التونسي، فقد أعلن مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي أنه «تم سحب لائحتي اللوم»، أي سحب ثقة، من وزيرين تونسيين اتهما «بالتطبيع» مع إسرائيل، قبل دقائق قليلة من موعد التصويت عليهما، في الجلسة العامة التي انعقدت يوم الجمعة 9 أيار الجاري. وتم تعويض اللائحتين ببيان موجه للحكومة أكد على «التزام تونس دولة وشعباً بمساندة الشعب الفلسطيني وتمسكها بعدم التطبيع مع الاحتلال الصهيوني ودعوة جميع الأطراف لاستكمال المرحلة الانتقالية وإجراء المحطات الانتخابية العام 2014».
وأثارت عملية سحب اللائحتين ردود أفعال غاضبة في الصحافة التونسية، إذ تحدثت صحيفة «الصباح»عن «مهزلة في التأسيسي»، بينما اعتبرت «لوكوتيديان» أنها «زوبعة في فنجان»، مشيرة إلى أنّ «الجمعية العامة اقتصرت على استعراض لبعض (النواب) الذين يفتقرون إلى حضور إعلامي».أما صحيفة «لوتان» فأعربت بدورها عن الأسف «ليوم مناقشات بلا فائدة»، مضيفة أنّ «الوزيرين أفلتا» من حجب الثقة برغم الجدل الذي سبق جلسة الاستماع إليهما. وكانت وزيرة السياحة نفت أثناء الجلسة أن تكون استقبلت سياحاً إسرائيليين، مبررة تصريحاتها المؤيدة لقدوم السياح من كل الجنسيات إلى تونس بضرورة إنعاش السياحة، القطاع الأساسي في الاقتصاد التونسي، والتي تراجعت بتأثير تداعيات الثورة التونسية قبل ثلاث سنوات.
ومن جانبه نفى وزير الأمن الوطني التورط في أي تطبيع، موضحاً أنه اتبع الإجراءات المعمول بها، وهي السماح لكل السياح الذين يأتون إلى تونس في رحلات بحرية وينزلون لساعات فيها بـ«جواز عبور» من دون قبول التعامل مع أي جواز إسرائيلي، وأشار الوزير المكلف بالأمن إلى أن تونس تمنح منذ سنوات «رخص المرور» للصهاينة الذين يحجون سنوياً إلى «كنيس الغريبة اليهودي في جزيرة جربة» الواقعة في جنوب شرق البلاد. كما أضاف أن الرخص تمنح لـ«عرب الـ 48 الذين يشاركون في المؤتمرات.. الدولية (بتونس)»، أو للسياح الإسرائيليين الذين يزورون البلاد ضمن رحلات سفن سياحية عالمية ترسو بضع ساعات بموانئ سياحية تونسية.
ما زال الموقف من القضية الفلسطينية يشكل في الذهن الجماعي التونسي حداً فاصلاً بين العداء والتطبيع مع الكيان الصهيوني، على الرغم من أننا لم نعد نشهد في تونس تظاهرات شعبية كما في السابق بمجرد حدوث صدام مسلح بين العرب والفلسطينيين من جهة، والصهاينة من جهة أخرى. ويرفض غالبية التونسيين في سياق التضامن مع الشعب الفلسطيني، أي سلوك من شأنه إقامة علاقات «طبيعية» مع إسرائيل ما لم يحصل الفلسطينيون على دولتهم المستقلة. فتونس استقبلت قيادة «منظمة التحرير الفلسطينية» وآلاف المقاتلين الفلسطينيين، عقب الاجتياح الصهيوني للبنان العام 1982. وكانت تونس مقراً بين 1982 و1994 لقيادة «منظمة التحرير الفلسطينية» وللرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وكان سلاح الجو الإسرائيلي أغار في تشرين الأول 1985 على حمام الشط جنوب العاصمة، حيث كان مقر «منظمة التحرير الفلسطينية». وقتل في الاعتداء 68 تونسياً وفلسطينياً. كما اغتالت إسرائيل في 1988 بتونس خليل الوزير «أبو جهاد» المسؤول الثاني في «منظمة التحرير الفلسطينية». وبرغم أن تونس تبادلت مع إسرائيل مكتبيْن لرعاية المصالح في العام 1996، فإن الحكومة التونسية قررت في تشرين الأول 2000 إغلاق المكتبين، تنفيذاً لقرارات القمة العربية، إثر قمع إسرائيل الانتفاضة الفلسطينية.
ومنذ أن تم توقيع «اتفاقات أوسلو» بين القيادة الصهيونية والقيادة الفلسطينية في 13 أيلول 1993، وتقديم المحيطين بالزعيم الراحل ياسر عرفات والنظام التونسي ذلك الاتفاق وكأنه النصر الحاسم ومفتاح الدولة الفلسطينية الذي كان مفقوداً وتم العثور عليه، تباينت المواقف من التطبيع مع العدو الصهيوني في صفوف المعارضة التونسية بين المؤيدين لخط التسوية، الذين يرون أن الحكم الذاتي الفلسطيني المحدود هو طريق الاستقلال ذاته الذي ارتضته السلطة الفلسطينية، وبين معارضين لكل ذلك جملة وتفصيلا معتبرين أن الانخراط في الكفاح من أجل تحرير فلسطين ومعاداة الكيان الصهيوني، كان وما زال يعتبر واجباً قومياً ودينياً، ويشكل أحد المقومات والثوابت الوطنية للشعب التونسي.
وتنبع الفكرة الأيديولوجية الأعمق للتطبيع مع الكيان الصهيوني، من قبل التيار التبشيري العربي، من محاولة طمس الهوية العربية - الإسلامية للمنطقة العربية، معتبراً إياها مساحة جغرافية تعاني من محنة الهوية، وبلا هوية حضارية. ولذلك يندفع هذا التيار التبشيري بقوة انطلاقاً من استغلاله أزمة الهوية أو عقدة الهوية في العالم العربي التي يعانيها العرب الآن لتسويغ وجود الكيان الصهيوني على أرض العرب، وقبول التطبيع معه، باعتباره دولة موجودة في الإقليم الشرق أوسطي نفسه، على هذا القدر الرفيع من التقدم الصناعي والاجتماعي والسياسي، يتطلب والحال هذه من العرب أن يكونوا مستعدين للدخول في مرحلة من التحدي الحضاري معها، وهي مرحلة قد تكون أصعب من مرحلة التحدي العسكري للكيان الصهيوني التي انتهت، أو قاربت على الانتهاء، وبالتالي القبول بالهوية الجديدة «الشرق أوسطية» التي تتموقع فوق هويات شعوب المنطقة ـ باعتبارها حاملة لواء الحضارة والتقدم والأمل في تغيير المجتمعات، وحل مشكلات النمو الاقتصادي والحريات الفردية والجماعية، والليبرالية السياسية، وبشائر الديموقراطية، والتطور الاقتصادي والاجتماعي المتناسق، والتبعية الثقافية.
فالسلام والتطبيع شيئان متلازمان ويعنيان الانتقال من حالة الحرب والعداء والمقاطعة للكيان الصهيوني إلى عكس هذه الحالات جميعها، لكي يكتشف العرب في ظل التبشير لمفهوم التطبيع، أنهم كانوا على خطأ طيلة المرحلة التاريخية السابقة، وكانوا يعيشون في ضلال، وليكتشفوا أيضاً بأن الكيان الصهيوني هو البوابة الحقيقية والمنفذ الوحيد المناسب للتصدير إلى أوروبا، تتنافس دول المنطقة على كسب وده، حيث أصبحت «إسرائيل» القناة الوحيدة لتصدير التكنولوجيا إلى الدول العربية، وتلقين علمائها ومهندسيها وفلاحيها.
ولا يمكن أن نفصل الدور الاقتصادي الذي يريد الكيان الصهيوني ممارسته في العالم العربي عن ثلاث محددات رئيسية تتحكم فيه، أولها: ارتباطه بالرأسمالية اليهودية والصهيونية العالمية، وثانيها: ارتباطه بالامبريالية العالمية مع المصالح والأطماع الصهيونية في قضية جوهرية في استغلال خيرات المنطقة العربية، وخلق وقائع اقتصادية كالتجارة والسياحة واستغلال الثروات والبيئة وغيرها، يمكن إن تشكل ضمان الأمن الصهيوني المستقبلي، وثالثها: التطابق في المفهوم الأميركي والصهيوني للسوق الشرق ـ أوسطية، والتخطيط للتغلغل الاقتصادي في العالم العربي، والسيطرة على ثروات الأمة العربية، نظراً لارتباط الكيان الصهيوني بالرأسمالية العالمية، وبالعولمة الرأسمالية الجديدة في بعدها الكوني، وفي طموحه أن يصبح مركزاً للاستثمار في المنطقة.
المصدر: السفير