اقتصاد الانهيار
ليس من الممكن أن يكون فاتك ملاحظة أنّ هناك مشكلة كبيرة في الاقتصاد، أمر مختلف عن المشاكل القديمة مثل الوظائف بأجور منخفضة، والوظائف غير المجدية التي ترهق الناس ليكسب أصحاب المليارات المزيد من المال. يبدو النقص في المواد والتضخم وهو يضرب جميع أنحاء العالم، ويطال ارتفاع الأسعار كلّ شيء من الغاز إلى الطعام وصولاً للإلكترونيات، هذا إن تمكنت من الحصول عليه أساساً.
أهلاً بكم في اقتصاد الانهيار. ستكون فترة بشعة في التاريخ، ونحن على وشك أن نشهد واحداً من أكثر الاضطرابات الاقتصادية في التاريخ – بل ربّما الأكبر والأطول والأكثر شدّة في التاريخ.
إن كنت تشكّ بأنّ قادتنا مخطئون عندما يحاولون أن يشرحوا لنا الأمر بأنّه مجرّد «أزمة سلاسل توريد»، فأنت محق. إنّه أمرٌ أعمق وأكثر تهديداً لنا كمجتمعات وكحضارة بشرية. إنّ محاولة تفسير الأمر بأنّه مجرّد أزمة سلاسل توريد، هو سوء فهم مذهل لما يحدث في الحقيقة.
المشكلة ليست في «السلاسل»، فليس الأمر مجرّد بضائع لا يمكنها الوصول إلى وجهتها، أو كما يسميها الاقتصاديون «الطلب النهائي»، بل المشكلة أنّ حضارتنا بات يعوزها القدرة على صناعة الأشياء بالكميات التي اعتدنا عليها، وخاصة في البلدان الثرية ومتوسطة الدخل.
يمكنك رؤية دلائل على أنّ المشكلة في «التوريد» وليس في السلسلة في كلّ مكان، في الرقاقات الإلكترونية، وفي الفاكهة والخضروات، والصلب، والخشب، والسكر، والقهوة. تتهاوى القدرة على إنتاج كلّ هذه الأشياء، ويمكنك تمديد العجز وصولاً إلى أصل سلم الاحتياجات البشرية – وصولاً إلى المياه والغذاء والدواء.
أزمة سلاسل التوريد حقيقية، لكنّها فقط جزء من المشكلة الكبرى، ومجرّد رأس الأزمة المنذر بالخطر. أمّا المشكلة الحقيقية فتمتد إلى أسفل متطلبات إنتاج التوريد، إلى العمالة والطاقة نفسها.
إنّه تحوّل هائل، وليس لدينا وسيلة لعكس نقطة التحول التي وصلنا إليها كحضارة وفقاً للأساليب المتبعة، نقطة عجز الرأسمالية عن السماح للحضارة البشرية بتزويد نفسها باحتياجاتها الأساسية رغم القدرات الجبارة الكامنة في البشرية لتحقيق ذلك، ناهيك عن أشيائها الترفية.
موجة تلو موجة
تسوء الأوضاع مع كلّ موجة توريد. تصل الحرائق إلى المصانع، وأخرى تغمرها الطوفانات، ويتم ضرب السلسلة بأكملها بسبب وباء، وندخل في فشل طويل الأمد عند الحصاد، ثمّ يعجز الناس عن الزراعة ضمن حزام النار. يتحوّل العالم إلى حزام من الأزمات التي تعيق إنتاج أيّ شيء، مرة تلو أخرى، تلو أخرى، تلو أخرى.
هذا هو المستقبل الذي علينا التحضّر لاستقباله، مستقبل من الجفاف والطاعون والحرائق والأوبئة. ونحن فقط في بداية كلّ هذا. لقد وصلنا إلى حدود احتمال الكوكب، والضرر الذي تسببنا به له تأثير مديد – يتم الكشف عنه ببطء.
إن كان ما أقوله يشبه التبشير بيوم الدينونة، فهو أسوأ من ذلك حتى. إنّها بداية أكبر فترة تمزق وتفكك اقتصادي في تاريخ البشرية. إن كنت تشعر بأننا نصبح أفقر بشكل أسرع، وبأننا نعاني بشكل مباشر وحاد، حتى في الدول الثرية، فقد بدأت تفهم درجة الخطورة. فمعنى هذا أنّ المجتمعات العالمية تصبح أفقر، ما يعني أنّ الموارد بسبب انعدام العدالة في توزيعها لا تبقي لكثير من الأيدي سوى أن تتصارع للحصول عليها، وأنّ التنافس عليها سيكون وحشياً.
وإن كنت تشعر بأنّ لهذا الفقر المتزايد عواقب اجتماعية-سياسية، فأنت محق. والعواقب الأبرز هي: صعود الفاشية المستمر. سينتج النقص المستمر في الموارد، والتضخم المصاحب، موجات أقسى من التطرف والقومية والفاشية الصريحة.
تخدم الولايات المتحدة هنا كمثال عن «الكناري الذي يطلقونه في منجم الفحم» ليستشعر الخطر. فكروا بالذي يحدث للأمريكيين. بعد فترات طويلة من الانغماس في الاستهلاك، وجدوا أنفسهم واقعين في فقر حاد. الفاشية تتمدد وتصل إلى السلطة، والقسوة والطمع يستبدلان الرحمة والعطف. المجتمع الأمريكي اليوم مجتمع ممزق ومدمّر.
لا أحد يريد العيش في مجتمع يقوم فيه مراهق عنصري أبيض بإطلاق النار في الطريق وقتل الناس، ثمّ تتم تبرئته.
ما الحل؟
يجب أن نفعل شيئاً يستمر الاقتصاديون التقليديون بإخبارنا ألّا نفعله: أن نستثمر في المجتمع. ما زلنا نعيش في ظلّ اقتصاد الثورة الصناعية، ونحن بحاجة لنمط اقتصادي جديد كلياً.
على الطريقة التي نطعم بها أنفسنا، وننظف بها أنفسنا، ونتنقل بها، ونطبب بها أنفسنا، وندرّس بها أنفسنا، أن تتغير. نحن بحاجة لتغيير النظام القائم وإعادة بنائه، وبعدها سنرى بأنّنا سنجد طعاماً وماء ودواء ومنتجات للجميع.
وعندما نقول كلّ شيء، فيعني ذلك كلّ شيء. لن يعود نافعاً أن نقطع الأشجار أو ننهك التربة في بلدٍ فقير بشكل رهيب، ثمّ ندفع له ثمناً زهيداً مقابل منتجاته التي نستوردها في البلدان الثرية. هذا النظام لم ينجح، ولا يمكن أن نجمله بأن نطلق عليه تسمية «تنمية».
بتصرّف عن: The Collapse Economy