الرأسمالية وربحها يدمّران أجمل ما فينا
ليزا هيرزوغ ليزا هيرزوغ

الرأسمالية وربحها يدمّران أجمل ما فينا

كانت الطبيبة الشابّة محبطة عندما قالت: «أريد التحدّث مع مرضاي ومنحهم الوقت اللازم لأستفسر عن حالهم. بعضهم أجنبي المولد وبالكاد يستطيع الحديث، وجميعهم في حالة كرب. لكنني بالكاد أملك الوقت لأشرح الأمور الأكثر جوهرية لهم، فهناك كلّ هذه الأعمال الورقية، ونحن نعاني حقاً من قلّة عدد الكادر». باتت مثل هذه التصريحات اعتيادية بكل أسف، وليس ذلك في مجال الرعاية الطبية فقط بل أيضاً في التعليم ورعاية الأطفال. حتّى في البيئات الأكثر تجارية فأنت تسمع اعتراضات مشابهة: المهندس الذي أراد التركيز على النوعية ولكنّه أُجبر على التركيز على الفاعلية الاقتصادية فقط. البستاني الذي أراد منح النباتات الوقت الطبيعي لتنمو، لكنّه أُجبر على التركيز على السرعة. إنّها ضرورات الربحية، وهذه هي قواعد السوق.

ترجمة : أوديت الحسين

تأتي الشكاوى من الطرف الآخر للطاولة أيضاً. فالمرضى والتلاميذ يريدون أن تتمّ معاملتهم بعناية ومسؤولية، وليس فقط بوصفهم مجرّد أرقام. ألم يكن هناك وقت عرف فيه أصحاب الحِرف كيف يقدمون الخدمات لنا؟ ألم يكن هناك أطباء مسؤولون ومنظمون بشكل جيد، ومعلمون حكماء وممرضات راعيات؟

ألا يحوي العالم ذاته خبّازين يهمهم نوعية الخبز، وبنّائين فخورين بما صنعوه؟ للمرء أن يثق بهؤلاء الخبراء، فهم يعرفون ما يفعلون، ويمكن الاعتماد عليهم كحرّاس لمعارفهم. لقد كان العمل مفخرة للمرء لأنّه كان يصبّ روحه فيه. ألم يكن الأمر على هذا النحو، أم لا؟

مجتمع النسيان

في غمرة الحنين للماضي، من السهل ألّا نرى الجوانب المظلمة لذلك النموذج المهني القديم. فالوظائف المهنيّة تمّت هيكلتها حول الجنس والعرق، وكان يُتوقع من الناس العاديين إطاعة حكم الخبراء دون توجيه أيّ سؤال. كان العرف هو الإذعان للسلطة، ولم يكن هناك إلّا طرق قليلة حيث يمكن تحميل المهنيين المسؤولية عن أعمالهم. فقد كان يطلق على الأطباء في ألمانيا على سبيل المثال: «أنصاف آلهة بالأبيض» بسبب علاقتهم بالمرضى وبأعضاء طاقمهم. ليست هذه تماماً هي الفكرة التي قد نكوّنها عن العلاقة التي يجب أن تربط مواطني المجتمعات الديمقراطية.

بدا على هذه الخلفية بأنّ الدعوة للاستقلال وللمزيد من «الاختيار» غير قابلة للمقاومة. وهذا تماماً ما صادف صعود النيوليبرالية في السبعينيات، عندما بدأ المدافعون عن «إدارة عامة جديدة» يعززون فكرة وجوب استخدام الفكر السوقي لهيكلة الصحّة والتعليم وغيرها من المجالات التي كانت تنتمي بشكل نمطي إلى العالم البطيء والمعقد. وبهذه الطريقة نفسها، لم تقم النيوليبرالية بتقويض المؤسسات العامّة وتشويهها فقط، بل كذلك بتشويه فكرة المهنية بحدّ ذاتها.

ذروة الهجوم

بلغت ذروة الهجوم في جدولي أعمال قويّين: الأول كان خطابه عبارة عن حِجاج اقتصادي حول اللا فاعلية المزعومة للخدمات العامّة، أو بطريقة أكثر ديماغوجية: احتجاز المهنيين في بنى غير سوقية. إنّه الحجاج الذي بات اليوم مبتذلاً بتناوله للطوابير الطويلة وانعدام الخيار وانعدام المنافسة وعدم القدرة على الخروج. هذه هي الانتقادات التي تردّدها جوقة مناهضة خدمات الصحّة العامة إلى يومنا هذا، رغم كلّ ما شهدناه.

أمّا الثاني فهو الحِجاج حول الاستقلالية والأوضاع المتساوية والتحرير، ومختصرها: «فكّر بنفسك» بدلاً من الاعتماد على الخبراء. وقد ساعد تطوّر الإنترنت على منح الظروف الممتازة لإيجاد المعلومات والعروض المقارنة: باختصار، ليجعلنا نقتنع بتمثيلية أننا مستهلكون مطّلعون بشكل تام.

إنّ هاتين الصيغتين: الاقتصاديّة والفرديّة، امتزجتا بشكل ممتاز في ظلّ الرأسمالية النيوليبرالية. فالانتقال من الحاجة لتكون مواطناً، إلى الحاجة للحصول على خدمة الزبائن كان قد اكتمل هنا. فجميعنا الآن زبائن، ويفترض أن تتمّ معاملتنا كالملوك. لكن ماذا لو كان «كونك زبوناً» ليس النموذج الصائب للرعاية الصحيّة وللتعليم، وحتّى بالنسبة للكثير من المهن المختصّة والمجالات التجارية؟

وصف الفيلسوف إيليّا ميليغرام هذا النموذج السوقي بأنّه «الإفراط في التخصص Hyperspecialistion». فنحن نعتمد على معرفة الآخرين وخبرتهم لأنّه غير متاح لنا سوى أن نتعلّم وندرس أشياء محدودة فقط أثناء حياتنا. فحينما نتعامل مع معارف اختصاصية، نكون النقيض لما يدعى زبوناً مطّلعاً. فرغم أننا لا نريد القيام بأبحاثنا الخاصّة في بعض الأحيان لكوننا سننهيها غير مكتملة في أفضل الأحوال، لكننا في معظم الأحيان غير قادرين على القيام بها حتّى لو حاولنا. لكانت الأمور أسهل بكثير، والفاعلية أكبر لو أنّ بإمكاننا الوثوق بالاختصاصيين الذين يملكون الخبرة والمعرفة.

لكن كيف لنا أن نثق بهؤلاء الاختصاصيين الذين أُجبروا على العمل ضمن النظام النيوليبرالي؟ فكما جادلتْ باحثة العلوم السياسية ويندي براون، فإنّ منطق السوق يغيّر جميع الأشياء، بما فيها حياتك الخاصّة، ليجعلها مسألة إدارة ملف فقط: أي سلسلة من المشاريع التي تحاول أن تعظّم ربحها عند الاستثمار.

بينما على النقيض لذلك، انتماؤك إلى قطّاع مهنيّ يعني أن تنظر إلى الحياة بوصفها سلسلة من العلاقات الاجتماعية، حيث يكون الأفراد موثوقين بالنسبة لك، بالتزامن مع وجود مجموعة من القيم الأخلاقية التي تحافظ عليها بوصفك عضواً في مجموعة مهنيّة معينة. لكنّ تحويل الأشياء إلى نظام السوق يهدد وجود مثل هذه الزمالة، عبر بثّ الفرقة بين العمّال على أساس المنافسة، وتقويض الثقة التي يحتاجها المرء ليقوم بعمل جيّد مرتاح.

هل هناك حلّ لمثل هذا اللغز؟ هل يمكن إعادة إحياء المهنيّة القديمة مع تخطي مشكلتها في البناء الهرمي والحفاظ على مساحة من الاستقلالية؟

 

نعم هناك حلّ

منح الفرصة من جديد للمهنيين بأن يكونوا «خبراء ومواطنين في الوقت ذاته». وذلك عبر الالتزام بالقيم الديمقراطية والحوار الدائم مع الناس العاديين. يتحدث المنظّر السياسي ألبرت زور عن مثال هنا: فعندما فتح الخبراء في مجال الأخلاق الحيوية باب النقاش للعموم ليشارك فيه غير الخبراء، خلق التعرّض للنقد العام والردّ عليه، وإيجاد صيغ للجمع بين الأطباء والمستشارين من جهة مع الناس العاديين من جهة أخرى، الكثير من الحوارات المفيدة.

لكن في الكثير من المجالات فإنّ ضغط المسار السوقي أو نصف السوقي هو الذي يسود. وهذا يترك اختصاصّيينا في وضع صعب، فكما وصف بيرناردو زاكا الأمر: إنّهم مجهدون ومنهكون ويتم تقاذفهم في اتجاهات متعددة وغير واثقين من الهدف من عملهم.

الطريقة الوحيدة هي في تحريرهم من القيم السوقية ونصف السوقية.

تجعل الأساليب السوقية ونصف السوقية من الاستراتيجيات التي يمكن لنا فيها التعامل مع المشكلة معيبة. وعبر الاستمرار في تجاهل الفرصة لتحقيق وتخيّل بدائل. علينا أن نكون قادرين على الاعتماد على خبرات الناس الآخرين، ولهذا فعلينا أن نكون قادرين على الوثوق بهم وبدوافعهم.

الطبيبة الشابّة التي بدأت حديثي عنها قد تركت الطب. وكما قالتْ: «كان الأمر معاكساً لما تخيّلته طوال عمري عن عمل الطبيب». يبدو بأنّ الوقت قد حان بالنسبة لنا لتخيّل نظامٍ آخر نستطيع فيه أن نعيد إحياء الغاية، وذلك لصالح الجميع.